فاطمه ناعوت …. تكتب هـ. ق. … أقصر رسالة فى التاريخ!
«أستاذة فاطمة، هـ. ق.؟» وصلتنى هذه الرسالة من أديب عربى كبير، صدرت له رواية وأرسلها لى بالبريد قبل عدة شهور. وريثما تفكرون فى معنى الرسالة، وقبل أن تظنّوا أنها أقصر رسالة يمكن أن يرسلها شخصٌ إلى شخص، دعونى أخبركم بأن تلك الرسالة المكونة من حرفى الهاء والقاف، ليست أقصر الرسائل، بل هناك ما هو أوجز.
أقصرُ رسائل التاريخ، لم تكن حرفًا أو حرفين. بل مجرد «علامة ترقيم». كان ذلك عام ١٨٦٢، حين سافر فيكتور هيجو، الروائى الفرنسى الأشهر، للاستجمام على ضفاف أحد الشواطئ، بعد شهور من الإجهاد أمضاها فى تأليف روايته العظمى «البؤساء» Les Misérables التى بلغت صفحاتُها ألفًا ومائتين من القطع الكبير. سلّم مخطوطة الرواية لدار النشر، ثم سافر. وبعد أيام من الطباعة والتوزيع، أرسلَ للناشر تلغرافًا مكتوبًا فيه فقط علامة استفهام: (؟). فردَّ عليه الناشرُ بتلغراف مكتوب فيه فقط علامة تعجب: (!). هل خمّنتم المقصود فى التلغرافين؟ حسنًا، علامةُ الاستفهام تعنى: (ما أخبار مبيعات الرواية؟). وعلامة التعجّب أرسلها الناشرُ ليقول: (المبيعات عجيبة تفوق الخيال!).
يعلم كتّابُ الأعمدة الصحفية «صعوبةَ» الاختزال والاختصار، مثلما يعلم المبتدئون «سهولةَ» الإطناب والتكرار والحشو؛ ما يسميه الغربُ Bla Bla، أى الثرثرة واللغو دون مضمون. لهذا ختم الزعيمُ إبرام لنكولن إحدى خطبه قائلا: «معذرة على الإطالة، لم يكن لديّ وقتٌ للاختصار!»، وكتبها من بعده الزعيم سعد زغلول فى إحدى رسائله.
فى رواية «حرير»، للإيطالى أليساندرو باريكو؛ دخل رجلٌ على عمدة القرية، وألقى على مكتبه منديلاً من الحرير، ثم سأل: «تعرف ما هذا؟» فأجاب العمدة: «أغراض نسائية!» فقال الرجلُ بامتعاض: «غلط. بل أغراض رجالية. أموال!» فطرده العمدة. خرج المطرودُ وشيّد معملاً وكوخًا قرب الغابة. ثم راح يُربّى دودَ القزّ فى صمت. وبعد عدة شهور عاد إلى العمدة، وألقى على مكتبه رزمةً ضخمة من المال، وسأله: «تعرف ما هذا؟» فأجاب العمدة: «أموال!» فردَّ الرجلُ بامتعاض: «غلط. هذا هو الدليل على أنكَ تيس!» وجمع أمواله ومضى. فاستوقفه العمدة صارخًا: «ماذا بحق الشيطان عليّ أن أفعل؟» فأجابه الرجل: «لا تفعل شيئًا حتى تصبحَ عمدةً لبلدة غنيّة». وبعد سنوات امتلأت البلدة بمعامل حلِّ الشرانق، لتغدو من أكبر المراكز الأوروبية لتصدير الحرير.
الإيجازُ هو البلاغة. وأعظم مثال على دقّة القول الموجز، ما قالته بلقيس ملكة سبأ حين شاهدت عرشَها جىء به محمولا، فسألها الملكُ سليمان: «أهذا عرشُك؟» وكان به اختلاف طفيف فى ترتيب الأحجار الكريمة. فما قالت: (هو)، ولا قالت: (ليس هو)، ولم تقل: (به اختلاف)، إنما أوجزت كلَّ ما سبق فى إجابة عبقرية: (كأنه هو)، وكانت من أبلغ القول. الإيجازُ سمةُ الأدباء الكبار. ونذكرُ الشاعرَ الأمريكى «إزرا باوند»، الذى حذفَ من قصيدة صديقه الشاعر البريطانيّ ت.س. إليوت أكثرَ من نصفها؛ لتغدو «الأرضُ الخراب» The Waste Land فى ثوبها المُختزل (٤٣٤ سطرًا) إحدى أشهر قصائد التاريخ، وأعظمها.
ولا تقتصرُ عبقريةُ الحذف على الإبداع الأدبيّ وفنون القول، بل تمتدُّ لتشمل الفنونَ الأخرى. فهذا بيكاسو يقول: «اللوحةُ عادةً ما تكون بناءَ طبقات فوق طبقات، على نحو تراكميّ، أما فى مدرستى، فاللوحةُ تتطور عن طريق حذف الطبقات والخطوط؛ حتى تصلَ إلى تجريد مُتقشّف للهدف المرسوم بأقل عدد من الخطوط والمسطحات». وهذا بالفعل ما تعلمناه على مقاعد قسم العمارة بكلية الهندسة. أن نرسم أعقد التفاصيل بأقل عدد من الخطوط.
وتُعلّمنا التكنولوجيا فضيلةَ الاختزال، وذكاءه فى المُغرّد Twitter. فكل تويتة يجب ألا تزيد على ١٤٠ حرفًا، ولو أزدت حرفًا تأتيك رسالةُ توبيخ: Try to be more clever!. تمامًا كالعصفور الذى «يُزقزق» نغمةً قصيرة، لكنها تحمل أعظمَ رسائل الدنيا: الموسيقى والجمال. والآن، هل نجحتم فى تخمين معنى الرسالة التى وصلتنى من الأديب الكبير؟ (هـ. ق.؟): «هل قرأتِ الرواية؟».
twitter:@fatimaNaoot