مفيد فوزي…. يكتب خصوصية مشاعر!
-١-
أنا من جيل تربى على أيدى الكبار الصفوة وأفصح عن مواهبنا كشافون عظام، طلعنا السلم درجة درجة ولم نهبط بطائرات محسوبية أو ولاء، شربنا المر لنخط حرفاً فوق الورق، ولم نأت من باب خلفى فاقد المعايير، اختبرنا محترفون وليس هواة تعلموا القشور وجلسوا على الكراسى ينظرون! أنا من جيل الإتقان والإخلاص للمهنة، ويوم جلست على مقعد رئيس التحرير كنت محصناً بتجارب العمر وأعطيت المهنة دمى وروحى، ولم أجرؤ على كتابة المقال إلا بعد أن عرفت الخبر والتعليق والتحليل والتحقيق. ولم أظهر على شاشة تليفزيون بلدى إلا بعد النضج والقدرة على البحث عن الحقيقة. عرفنى الناس ٢١ عاماً مع «حديث المدينة» وكانت توجهنا إلى صحيح البث على الشاشة خبرات متمكنة، لم تكن الحياة بمبى ولم تكن سهلة، كان الصراع من أجل البقاء كبيراً وشرساً، انتميت لقطاع الأخبار ورسمت بالصورة للمجتمع خريطة بدءاً من حادث السلعوة إلى الصرف الصحى الغائب فى الصعيد والطلمبات الحبشية حتى يومنا هذا؟!
أنا من جيل عرف عقاب السلطة وجزاءات مالية وأخرى معنوية عقاباً على خطأ مهنى أو إدارى، جيل المحاسبة نعم، فمن غير الإنصاف اتهام أجيالنا بالتخاذل ومن غير الإنصاف الردم على كل شىء كان بالأمس، فلم يكن الأمس كريهاً إلى هذا الحد، كنا عايشين، اللمة تجمعنا، والأعياد لها طعم خاص والحياة سهلة ولا أحد فى المدينة ينام دون عشاء. كان الجنيه معقولاً قبل «سخطه» وفضيحته أمام العملات الأجنبية، كنا سعداء بحجب الحروب عنا ٣٠ عاماً، حتى جاءت مرحلة «التشخيص الخطأ للعلاج الخطأ».
-٢-
عندما أرى أخطاء مهنية وشخصية، اعتدت أن «أبرر» فهذه أبسط قواعد الفلسفة وهى أن تبرر الأخطاء فتستريح. ولكن هناك أخطاءً مهنية قاتلة ناجمة عن غفلة «الصغار» وعدم مراجعة الكبار. وأجد نفسى «أغلى من الداخل» حنقاً ومن الممكن لو راجعت المخطئ أو المقصر قال لى باستخفاف «خدها Easy» أى خدها ببساطة!! وهى سمة صارت منتشرة فى حياتنا أمام أخطاء صغيرة أو فادحة! هناك حالة استخفاف بالأخطاء وهذا على المدى البعيد ينعكس على حياتنا، ونبعد فراسخ عن الإتقان والمهنية. إن شهرة ألمانيا هى الجدية والإتقان من أول مشترك الكهرباء الذى يسمح بعشر فيشات إلى السيارة المرسيدس التى تحظى بالألفة بين السيارات فى العالم. قلت لمدير العمال «لابد من عقاب للمقصر» قال: هنعمل تحقيق. ثم نسيت الحكاية! لا أظن أن تحقيقاً قد تم، بل قيلت العبارة الشهيرة «جلَّ من لا يخطئ» يا سيدى.. هذا ما يجرى فى الحياة المدنية التى كانت من قبل تضاهى الحياة العسكرية المنضبطة ولايزال هناك مسافة أمام هذه الخاصية، الانضباط.
-٣-
عندما أكتشف أخطاءً مهنية أو أدخل فى قضايا فرعية تنسجها البلطجة أو ألاحظ تدنياً فى السلوك فأنا أحزن. وقد حذرنى الدكتور مجدى يعقوب من «الزعل» وقال لى إن عائده مضر جداً ولما قلت: هل هو الغضب؟ قال: الغضب قد يذهب حين يتحسن مزاجك العام ولكن الزعل أطول وأعمق وأخطر. حقيقة الأمر أن الزغل يزورنى وتطول إقامته لأنى أشعر بغربة فى هذا المجتمع المادى المتدنى المنفلت! لقد عشت أزمنة مختلفة، لم أر فيها مثل هذا العجب العجاب!
لهذا صرت بيتوتياً أحتمى بالبيت وأتمتع فيه بالروقان. لهذا صرت أغلق الموبايل فأستريح من رنينه. ولهذا قل عدد أصدقائى وهم القدامى. إن أصدقاء الحاضر والمصالح هى صداقة محكوم عليها بالفشل. لهذا أدقق بشدة فى كل علاقة جديدة فأنا لا أعرفه جيداً. لهذا أختار المكان المدعو إليه وأذهب إذا توفر الأمان والاطمئنان. لهذا أختار نفراً قليلا للنقاش الحر النقى معه فى أمور الحياة وقضايا البلد. لهذا أقطع أوقاتى بالسفر خارج مصر أو داخلها لأتجدد. لهذا أنتخب أى سهرة أدعى إليها وأسأل عن فرسانها لأقرر الذهاب من عدمه.
-٤-
هذه خصوصية مشاعر أبوح بها لأول مرة علناً على صفحات صحيفة، وربما لا يعلم كثيرون أن لى قائمة من الأصدقاء أثق فيهم بحكم التاريخ المشترك ولا يقل طول علاقتى عن ٢٥ سنة، عرفتهم وجربتهم واختبرتهم وأشعر بالطمأنينة معهم. هناك أصدقاء وصديقات جدد، هم أصدقاء عقل فى المرتبة الأولى وهم أهل للثقة، وهناك أصدقاء قلة ومعارف كثيرون. أما فى سهرات أناس أزورهم للمرة الأولى، فأنا أصغى وأسمع أكثر مما أتكلم. نعم، إنى أدوس الأرض الجديدة أى أحاول أن أفهم ماذا تضمر هذه القلوب. أنا بالمناسبة لا أسعى إلى أحد وإذا تصادف وجودى فى مكان يضم وزراء ومسؤولين، فأنا أطلب «التواصل» أى الرقم الخاص للاتصال بهم. تعلمت منذ زمن البعد عن السلطة، خشية نارها. تعلمت منذ زمن ألا أكون محسوباً على أحد. فالسياسة قلاَّبة وغدارة ولا أمان لها! تعلمت الحديث المقتضب مع الغرباء وخصوصاً فى التليفون. تعلمت ألا أذهب لحفل ليس لى فيه مقعد باسمى وأحياناً أذهب فلا أجد مكاناً، فأنصرف غير نادم..!
-٥-
أنا من جيل عرف الكبار اسماً ومقاماً، وانتمى لمدارس فكرية عظيمة. عرف الكتاب وتاه بين موضوعات الفهرس، وتذوق مسرحاً راقياً وسمع أعذب الغناء وقرأ أجمل القول وحين يقل المستوى أو قل يتدحرج، تخذلنى دمعة تنساب على خدى وأكتشف أنى أدفع ثمن غربتى فى هذا المجتمع الذى مازلت مشتبكاً معه، منتمياً إليه، رافضاً مظاهره الجوفاء، متعاطفاً مع أسر شهدائه وهم أولى بالاهتمام، وإذا رفضت شيئاً قبيحاً، فأنا أخاطب صنَّاعه غاضباً شاخطاً دون أن يسمعنى أحد أو يرانى!
-٦-
أنا من جيل يميزه أنه جلس مع الكبار وحاورهم وأصغوا لما أقول باحترام وعرفت قدرى فى عيونهم. الكبار فى الفن والفكر والأدب والسياسة.
حصيلتى، تغفر أخطاء هذا الزمن وتجاوزاته وتعرف أن الغد أفضل حين يكون القائد معجوناً بالوطنية ومصر فى بؤبؤ عينيه وجاء من «كرشة مصر» باب الشعرية.