مقالات

فاطمة ناعوت…. تكتب العالمُ المخبَّأ فى ورقةٍ صفراءَ صغيرة

عزيزى القارئ، دعنى ألعب معكَ لعبةَ التداعى الحرّ للأفكار، لنتأملَ عبقرية المخ البشرى، تلك التلافيف الدقيقة من الخلايا العصبية التى لا تشكّل فى مجملها إلا كتلة صغيرة فى حجم يد مقبوضة. أغمضْ عينيك وحَلّقْ معى فى فضاء الخيال وتصوَّر ما يلى. أنتَ رجلُ أعمال، تجلسُ الآن فى مكتبك، تراجعُ جدول أعمالك. يرنُّ الهاتفُ. هذا عميل يخبرك بصفقة مهمة. تلتقط قلمًا وورقةً صفراء من رزمة ورق الملاحظات اللاصق، لكى تدوّن البيانات. الورقةُ الصفراء ذكّرتكَ بلون شرشف الطاولة التى جلست إليها مع حبيبتك قبل سنين على ضفاف النهر. حزينةً كانت تخبركَ أنها المرة الأخيرة لكما معًا. تسمعُ نحيبَها وشكواها وعيناك مثبتتان فى نسيج الشرشف الأصفر، هربًا من التقاء العيون. تقولُ لك حبيبتُك إنكَ لا تقدّرُ قيمتها كفنانة تشكيلية، وتُردّدُ دائمًا أن أعظم الرسامين فى العالم رجالٌ لا نساء. قالت لك إن نصفَك يزعم الاستنارة والمناداة بحقوق المرأة، وهذا نصفُك الزائف، بينما نصفُك الفعال رجعىٌّ لا يُقدّرُ المرأة. لذا رفضتَ سفرها فى ورشة تدريبية نظمتها اليونسكو فى باريس. باريس. زيارتك الأولى لها منذ عشرين عامًا لا تُنسى.

اللوفر وهضبة sacré – cœur. تنتقى، من بين الرسامين المنتثرين فوق الهضبة، رسّامةً تعجبك لوحاتُها المعروضة خلفها على حوامل خشبية. أمامها كرسى فارغ. تتقدم وتجلس عليه بعد أن تحييها بابتسامة. سترسم لك «بورتريه» تنتوى أن تعلقه فى مكتبك، جوار شهادات التقدير والدرجات العلمية الرفيعة التى حصلتَ عليها. الرسامةُ بولنديةٌ سمينة. بياضُها مشبّعٌ بحُمرة تشى بطيبتها. تطلب منك بإنجليزية ركيكة ألا تتلفّت كثيرًا حتى تُنهى عملها. ربع ساعة تمرُّ كأنها الدهر. والنتيجة؟ الرجلُ الذى فى اللوحة لا يشبهُك. ملامحه حادة وغاضبة. يبدو مثل ذئب. ذئب؟! كان فى بيت جدّك الريفى جسدُ ذئبٍ محنّط. الجدُّ يزعم أنه ثعلبٌ نادر اصطاده من الصحراء فى شبابه. لكنه ذئبٌ هزيل والكلُّ يعلم أن جدك يخترع أمجادًا وبطولاتٍ لم تحدث.

لكنّك لستَ ذئبًا كما فى ملامح الرجل الذى فى لوحة الرسامة البولندية. تشرحُ للفنانة أن اللوحة لم تعجبك فتشير لك بكفيّها البضّتين بما يعنى: «ليس فى الإمكان أبدع مما كان». تمدُّ لها يدك بالعشرين يورو. لكنها ترفض أن تأخذها مادامت اللوحة لم ترُق لك، وتبتسمُ وهى تغلّفُ اللوحةَ وتعطيها لك. فماذا ستفعل بها هى! أين تلك اللوحة الآن؟ والله نسيت! ربما فى بيت العائلة الريفى القديم.

أنت الآن تسكن فى إحدى العمارات الشواهق بقلب العاصمة. والأمُّ وحيدة. رفضت أن ترافقك إلى مسكن ثرائك. كيف لها أن تتركَ ذكرياتها الحلوةَ مع أبيك ومع طفولتك؟! منذ متى لم تزرها؟ سنة أم أكثر؟ منذ متى لم تهاتفها؟ شهر؟ شهرين؟ تلتقطُ هاتفك وتنقر رقم البيت القديم. «وحشتنى يا حبيبى، كده نسيت أمك؟». «مستحيل أنساك يا ماما، أنتِ فى بالى طوال الوقت لكنها المشاغل». «ربنا معاك يا ابنى، دايما بادعيلك. أختك رجعت من السفر ونايمة على سريرك دلوقت». آه! السرير الصغير. تعودتَ أن تدخل تحته وأنت طفل وتُخبئ اللعبَ فى كرتونة صغيرة. وكذلك كلّ الأشياء التى كنتَ تسرقها من أختك الصغيرة؛ حتى تجعلها تبكى طوال اليوم.

تنتبه فجأةً على صوت السكرتيرة تسألك عن بيانات الصفقة التى أملاها عليك العميل الذى هاتفك قبل دقائق. فتكتشف أنك لم تدون أى شىء! الورقة الصفراء خاوية وقد تجعدت فى يدك. أخذك اللونُ الأصفر فى رحلة طويلة فى الزمن والمكان. ورقةٌ صفراء سافرتْ بكَ شرقًا وغربًا فى دقيقتين حتى أوصلتك إلى طفولتك الأولى، وواجهتك بجميع شرورك القديمة.

 

 

ما سبق هو شىءٌ من فوضوية «التداعى الحر للأفكار». وهو إحدى معجزات المخ البشرى العظيم. اكتشف تلك التيمة الإعجازية أدباءُ كبارٌ مثل جويس وبروست وفرجينيا وولف، فصنعوا ثورةً فى عالم القصّ والرواية وانتقلوا بها من كلاسيكية القرن الـ١٩، إلى حداثة أوائل القرن الماضى. ودشنوا مدرسةً سردية اسمها «تيار الوعى Stream of Consciousness». تعتمدُ المونولج الداخلى، والتداعى الحر للأفكار، واستحثاث القوى الذهنية الكامنة فى المخ البشرى الملغز. تقول وولف: «دعونا نرصد ذرّاتِ الأفكار أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبع التشكيلَ مهما كان مفككًا وغيرَ مترابطِ التكوين، سنجد أن كلَّ مشهدٍ وكلَّ حدثٍ سوف يصيبُ رميةً فى منطقة الوعى». فى معرض القاهرة الدولى للكتاب اسألوا عن ترجماتى لإبداع «فرجينيا وولف» فارسة تيار الوعى، من جناح إصدارات «المركز القومى للترجمة» و«مكتبة الأسرة». اللهم شكرًا على عطاياك العظيمة علينا نحن البشر.

 

 

twitter:@fatimaNaoot

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى