أ.د. عوض الغبارى…. يكتب محاربة فى مدار السرطان
بقلم أ.د. عوض الغبارى، أستاذ بكلية الآداب، جامعة القاهرة قسم اللغة العربية
هذا عنوان كتاب للإعلامية القديرة “منى بارومة” صدر هذا العام (2018) تروى فيه تجربتها الشخصية مع مرض السرطان بأسلوب حافل بالصدق الإنسانى فى تقديم هذه التجربة الصعبة على النفس والأهل والأصدقاء والمحبين الذين ساندوا “منى” فى هذه الظروف القاسية.
وقد استمدت “الكاتبة” قوتها فى مواجهة هذا المرض الخطير بالأمل فى الله، وافتتحت الكتاب بقوله تعالى: ” وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ”. سورة يوسف/ آية 87. والإيمان العميق بالله يرجع إلى أصالة المصريين، وقد نشأت “منى” فى بيت صلاح وتقوى من أسرة طيبة. كما نشأت إنسانة فنانة بطبعها بين ربوع مدينة بلطيم، حيث كنا نستقبل طلوع الشمس وغروبها على شاطئ مصيف بلطيم، ونستمتع بمياهه الصافية، ورماله الناعمة، يطل عليها جبل النرجس بعبقه الذكى.
ومن هنا تجلى الإبداع فى حياتها، فهى كاتبة مبدعة لها حضور جميل فى مجال الصحافة والتلفزيون.
وزوجها الأستاذ/ محمد الغيطى إعلامى مشهور، وابنتاها ميار الغيطى ومى الغيطى مبدعتان شابتان لهما مستقبل واعد فى السينما والتليفزيون.
وربما كانت إصابة “منى” بالسرطان ابتلاء وامتحان من الله لتؤجر على الصبر فى مواجهة المحنة.
وقد مَنَّ الله عليها بالنجاة من هذا المرض الخطير، الذى واجهته بإرادة قوية، وأمل فى انفراج الشدة، ونصرة من الأشخاص الذين أحاطوها بالرعاية فى محنتها. و”منى” تسجل هذه المواقف الصعبة فى هذه الأزمة لتحول الألم إلى أمل، داعية الله بشفاء كل مريض يعانى من هذا المرض قائلة فى مطلع كتابها:
“اللهم ارحم كل من عانى من مرض السرطان، واشف مَن لازال يعانى منه، وقر أعين أهله بشفائه أمين يا رب العالمين”.
ونشعر بالصدق والإخلاص فى هذا الدعاء النابع من القلب، قلب من عانت من هذا المرض، وليس الخبر كالمعاينة. و”المحاربة” فى عنوان الكتاب مقصودة لأنها الوسيلة التى أعانت الكاتبة على تحدى هذا المرض.
أما المدار فى العنوان، أيضا، فدلالة على هذه الروح الأدبية للكاتبة وقد جعلت هذا المرض مدارا للأحزان والآلام، كما جعلته رمزا للدوران فى فلكه القاسى، مورِّية بالفلك وأبراجه لمن يصيبه هذا المرض فيجرى عليه البلاء والنحس، أو ينجو منه – بفضل الله- فيدور فى مدار الفرح بالنجاة.
ولا يخلو العنوان: “محاربة فى مدار السرطان” من الإشارة إلى ثقافة الكاتبة الفنان الإنسانة فى صياغة تجربتها داخلة إليها بهذا العنوان الموحى بالكثير من الإحالات التناصية.
هذه الأسرة التى وقفت إلى جانبها، ابنتاها، زوجها، أختها التى تركت بيتها وأولادها فى السعودية، لتكون معها فى محنتها.
هذه المعانى الكريمة التى تشيع اليقين بأمر الله الذى قيض هؤلاء الأحبة ليكونوا عونا للكاتبة فى هذه المأساة. إنها الطاقة الإيجابية التى أرادت “منى بارومة” أن تنقلها للقارئ المتعاطف مع مشاعرها، وقصتها مع هذا المرض القاتل. كيفية التغلب على الآلام “وكل شخص له طريقة وحكايات معها”([1]).
خوف الكاتبة على محبيها من الحزن عليها، وإخفاء آلامها من أجل ذلك. تسامحها مع من تركها فى محنتها، إنها رحلة شاقة مع المرض، كان نتاجها هذا الكتاب المهم فى الفرج بعد الشدة، والشفاء بعد المرض. ويحتوى هذا الكتاب على أربعة فصول، أولها بعنوان: “أمى وبداية الحكاية”، تفتتحه “منى بارومة” بقولها: “مرض قاتل لعين مفترس، خبيث قل عنه ما تريد، لكن لا تفقد الأمل فى الله أولا، والإرادة التى هى من عند الله والإيمان به ثانيا”([2]).
هذا المرض الذى يعد الشفاء منه من ضروب المستحيل طبيا، مما يصيب صاحبه بالهلع واليأس والإحباط، خاصة فى ظل ما حدث لأم المؤلفة من إصابتها به فى الثدى، و”منى” فى الصف الأول الثانوى.
الأم وهى فى شبابها وقوة شخصيتها، عماد الأسرة، وقد استمرت حاملة للمسئولية بعد إصابتها بالمرض. وتحكى المؤلفة هذه القصة الحزينة، وصدمة وقوعها خاصة فى ذلك الزمن الذى لم يُعرف فيه الكثير عن هذا المرض. وتفيض الكاتبة فى وصف الحالة السيئة التى أصابت الأم والأب والأسرة نفسيا بعد إجراء عملية، والدوخة بين القاهرة والإسكندرية بحثا عن معاهد الأورام وعذاب العلاج بالكيماوى، ورحلته المريرة، وكذلك العلاج بالإشعاع، وكان ذلك جديدا وقتها، منذ الثمانينيات.
وتحكى الكاتبة هذه الذكريات الأليمة بالعامية المصرية، فتقترب من وجدان العامة الذين يعانون – وأسرهم- من تبعات هذا المرض، إضافة إلى تأثيرها فى الخاصة والعامة بهذا الأسلوب الحكائى الذى يفيض إنسانية تصل إلى القلب والعقل والوجدان.
تحملت الأم ما لا يحتمله بشر، وسقط شعرها، وحُرق صدرها من جراء العلاج إلى أن توفاها الله، صابرة على ما عانته من هول الألم، والأم، وما أدراك ما الأم، والقلق عليها من قِبَل الابنة الحانية التى صدمتها وفاة الأم، فأخذت ترثيها بدموع غزار، وأثَّرت فى القارئ بتلك الكلمات الدامية التى عبرت بها عن رحيل الأم([3]).
وعنوان الفصل الثانى “أنا ومعركة الأخذ بالثأر” تبدو فيه الأنا بالمعنى الإيجابى الدال على قوة شخصية “منى” برغم مرضها الخطير.
وقد داهمها المرض وهى على الهواء فى برنامجها التليفزيونى الذى بدأ مع ثورة 30/6/2013، ومع استقرار أسرى، وحياة هادئة، فكانت صدمة. وحظ “منى” مع الطبيبة، المتعجرفة يذكِّر بما حدث مع “الأم” من الطبيب الذى كشف عليها أول مرة، وكان فظا.
وهناك مرارة فى وصف “منى” لفظاظة مثل هؤلاء الأطباء، وإن كانوا لا يمثلون مجموع الأطباء الشرفاء. وربما تكون صدمة المرض الخبيث سببا فى هذا التوتر والنقمة على الطبيب. واضطرت “منى” إلى الإذعان لهذه الطبيبة التى أصرت على إجراء عملية لها فى يوم العيد رغم حرص “منى” على تأجيلها لكى لا تتسبب فى نكد أسرتها فى هذا اليوم.
ويدور فى داخل المؤلفة صراع رهيب، فقد اصرت ألا تفوت رحلة العيد على أسرتها رغم تعبها. تقول: “صحتى تتدهور فى أيام قليلة، الحزن يملأ نفسى، أصبحت على أبواب الاكتئاب”([4]).
وتبين “منى” بعد سرد إنسانى حافل بالإثارة أنها أصيبت بالسرطان، وقد كانت تعتقد من إجراء عمليتين أنها مسألة تتصل بمرض من أمراض النساء، فانهارت، وأخبرتها صديقتها الطبيبة أنَّ اكتشاف المرض مبكرا سيساعد على العلاج. تقول: “وخرجت أنا و”مى” ابنتى، ووضعت المفتاح فى السيارة، وركبت أنا وابنتى والصمت والذهول معنا وظللت فى حالة انهيار وبكاء شديد، ولم أر ابنتى وكأنى وحدى، نعم وحدى. تذكرت أمى ومرضها وشريط رحلة الألم والمرض لأمى أمامى”([5]).
إنها تجربة مريرة تدمى القلب؛ شعور رهيب بالنهاية تخايل الإنسان المحب للحياة، وتوشك أن تخطفه من دنياه، ومن أسرته. توصيف لحالة قالت عنها “منى” إنها زلزال، كارثة جعلت الأسرة تنهار.
تبين خطأ الطبيبة التى أجرت عمليتين بتشخيص إجهاض للحمل، وعرفت طبيبة أخرى، هى صديقة المؤلفة، السبب الحقيقى الصادم.
واصطدمت “منى” بطبيب فظ آخر بدأ معها العلاج الكيماوى فورا، وهى لا تكاد تصدق نفسها رعبا وذهولا. و”منى” مشغولة بأسرتها مع صدمة مرضها الخطير، تفكِّر فى زوجها المشغول بعمله، وابنتيها كذلك إضافة إلى الدراسة، وهى تؤثر على نفسها فى هذه الظروف القاسية، وتتحمل، كما تحملت أمها، لكى لا تؤثر على مسار حياة الأسرة. والأعراض المرضية مرعبة ترجيع وسقوط شعر وآلام فى العظام.
إضافة إلى عدم لياقة الطبيب وكياسته فى مراعاة الظروف النفسية للمريض فى هذه الحالة، لكن طبيبا آخر يخفف عن منى المستمرة فى هذا الحزن والشجن والحزن خوف فراق زوجها وابنتيها. عبَّرت عنه بقولها : “وأصبحنا كأسرة فى دوامة الأطباء وتوجيهاتهم، فأنا أشعر بما فى داخل نفوس بناتى، لأنه نفس الشعور الذى عشته، ومررت به فى أزمة أمى، نفس الحزن والخوف والقلق والفزع”([6]). إنه الصراع بين الضعف والقوة، بين الحياة والموت، وما أقساه. ونتطرق مع الكاتبة “منى بارومة” إلى الفصل الثالث بعنوان: “يوم الحسم”.
والرحلات المكوكية بين الأطباء، هل يكون العلاج بالكيماوى أولا، وهو ما يرعب “منى” ويتسبب فى انهيارها نفسيا، أم بالعملية؟.
وهل تسافر لإجراء العملية فى فرنسا أم فى أمريكا؟ أم فى مصر؟
حقا إنها معركة شرسة ومحارَبة كما جاء فى عنوان الكتاب، ويمكن قراءتها محارِبة لما اتضح من إصرار “منى” على مواجهة المرض مهما كان الثمن.
قررت “منى” إجراء العملية فى مصر مع الطبيب الذى وثقت به، وكان الزلزال فى عنفوان شدته يوم العملية. ونأسى “لمنى” وهى تواجه هذه اللحظات الحاسمة، وقد جعلت هذا اليوم يوم الحسم. وتأخذ المأساة منتهاها عند دخول العملية، ممزوجة بالخوف من الموت، والأمل فى النجاة من أجل الأسرة؛ زوجها وابنتيها، وأهلها.
وتبلغ الإثارة مبلغها الكبير، ويتابع القارئ هذه المأساة، وقلبه وعقله مشغول بها، منتظر نتيحتها التى تأتى مع الفصل الرابع بعنوان:
“دقات عقارب الساعة”.
وفى هذا الفصل تسرد “منى” كيف تخيلت الجسر بين الحياة والموت وهى تحت تأثير غيبوبة البنج، ثم العناية المركزة بعد إجراء العملية، وأكياس الدم والمحاليل المعلقة وجهاز التنفس التى أفاقت عليها، وقد انهمرت عيناها بالدموع باحثة عن ابنتيها، تريد أن ترى ما يحييها وقد حاصرها الموت من كل جانب، وتجمعت فى جسدها كل الآلام، ولكن كان صبرها وإيمانها بالله كبيرا([7]). يحدوها الرجاء فى الشفاء من أجل ابنتيها اللتين لم تتركاها، وكذلك أختها لمدة شهر، اختنقت فيها من رائحة المرض والموت والخوف من ارتداد المرض بصورة أو بأخرى بعد هذه الرحلة من العذاب والألم.
ثم تبدأ رحلة العلاج بالكيماوى وعذاباته ودوامة الأعراض الجانبية التى يسببها([8]). وأهمها الغثيان وتكسير العظام وملازمة الفراش بعد كل جرعة، ثم أكثر الأعراض إيلاما وهو سقوط الشعر، وما يسببه من انهيار نفسى.
تقول “منى” فى هذه الظروف التى لاقت فيها دعم الأسرة: “وكنت أقوى بأسرتى وأختى، وأصر على الشفاء والانتصار على هذا اللعين، وعندما كنت أضعف من الألم، وأرى الحزن فى عيون بناتى، أتراجع عن ضعفى وألمى، واستدعى القوة الكامنة التى بداخلى، وأتذكر أمى وحرمانى منها، وأطمئن بناتى”([9]).
كانت الأسرة هى كل ما يهم “منى”، وهى فى محنتها. أرادت أن تفاجئ زوجها بالاحتفال بعيد ميلاده، فكثفت جرعة العلاج قبل ذلك لتسعده، رغم المخاطرة بتقدم موعد العلاج، استشرافا للشفاء والانتصار على المرض، تقول: “وهكذا كانت المعركة تشتد وتشتعل، وأنا أحارب وأحارب، وليس أمامى خيارات غير هدف الانتصار”([10]).
ومنى “المحارِبة فى مدار السرطان” تكرر قولها: “أحارب” و”ميدان المعركة” و”ساحة القتال”، وتنتظر، فى خوف وأمل، نتيجة المعركة بعد الانتهاء من الجرعات المؤلمة. ثم كان نصر الله ونجاح العملية بحمد الله وبفضل مجهود “منى” ومثابرتها وصبرها وشجاعتها وتحملها الكثير من الآلام.
وسافرت “منى” إلى أمريكا للاطمئنان على نجاح العملية، وذُهِل الأطباء الأمريكيون عندما رأوا النتائج الباهرة لعلاج منى “فى مصر” وتقدم هذا العلاج، وافتخار “منى” بمصر وأطبائها.
لقد نجحت “العملية” كما نجحت صاحبتها فى أن تثير فينا النوازع الإنسانية فى صراعها بين الخوف والأمل، إلى أن أشرقت أنوار الحياة.
(*) أ.د. عوض الغبارى، أستاذ بكلية الآداب، جامعة القاهرة قسم اللغة العربية.
([1]) منى بارومة، محاربَة فى مدار السرطان، مركز المدينة للإعلام والنشر، ص7.