صديقى الحصيف، جمعتنا مقاعد الدراسة وملاعب الحياة وتقلبات الزمن، لا يهمكم اسمه وإن كان له خصال أحبها وأوثر من يتحلى بها. ففيه تواضع الطيب صالح، واستغناء فوزى فهمى، وجرأة جابر عصفور، وسلامة قصد مصطفى الفقى، ورصانة عبدالمنعم سعيد. وأشعر كثيراً أنه «ونيس» جميل أحتمى به من غضبى ومزاجى المتقلب ومن نظرتى الناقصة للصورة. هو لا يملك نصائح مبرمجة صالحة لكل أوان ولا يتفوه بإرشادات مدرسية محفوظة. إنما يسبر غور الأشياء ويستنبط المراد. هل لأنه شغل مناصب كثيرة فى الدولة سلحته بالتجارب أم لأنه كان متفوقاً فى الدراسة وترتيبه الأول دائماً وكنا نسميه «البريمو»؟ لكنه آثر الظل والبعد عن الضوء، فأكسبه هذا ثباتاً انفعالياً.. وقدرة على التركيز. كثيراً ما يقرؤنى من ملامحى قبل أن أنطق بكلمة، ولديه قدرة على الإصغاء بكل حواسه. صحيح لا أراه كثيراً ولكن رفقة أيام الدراسة الأولى والمود المشترك والظروف الاجتماعية المتقاربة أضافت عمقاً لعلاقتنا وبُعداً إنسانياً.
تعودت مع صديقى الحصيف ألا أطلب نصائح أو حلولاً، إنما أطلب رؤية. حين ألمّح له أن الاعتماد على الشباب قليل التجربة يفوق الاستئناس بأصحاب التجربة مهما مضى قطار العمر، هذا ملمح أحسه وأراه الآن. يهمس الحصيف: الشباب هو «الغد» وجيلنا هو «الأمس» ويستفاد بخبراته المتراكمة حين اللزوم، حين ألمح له أن عسكرياً شغل موقعاً مدنياً فوق طاقته يهمس بأن العسكريين يثقون أكثر فى العسكريين، إنه ولاء الكتيبة. حين أتضايق من وصول حال ماسبيرو إلى الضعف والوهن وإنشاء كيانات جديدة بلا مضمون أو محتوى أو مخالب، قال بثقة: ربما كان هذا هدفاً. فلما قلت: هل المطلوب تمييع المضمون؟ ليس بالضبط إنما المطلوب «كل شىء بمقدار». حين أصيح فى وجهه: إعلان القرارات الاقتصادية بهذه الكيفية دون تمهيد الناس لها فيه «غباء سياسى». وبلدوزر الإزالة فى جزيرة الوراق «داهم» الحى دون تمهيد الناس فيه «جليطة أجهزة». شاور الحصيف بإصبعه لأهدأ وقال بنفس نبرة الصوت الهادئة: إنها قدرات حكومات. وما تطلق عليه غباء سياسى هو قلة حيلة مسؤول، وما أسميته جليطة أجهزة هو روتين سائد فى الإزالة. نحن- كإدارة مصرية- لم نتعود أن يكون الناس طرفاً فى المعادلة. حينما أقول لصديقى الحصيف إن عدد الشهداء من الجيش والشرطة يتزايد وعدد الأرامل يتكاثر. يرد بهدوء: هذا قدر بلد أنهى مبكراً حكماً دينياً وندفع فاتورة الانتقام. تذكر أن الثورة الفرنسية دفعت ثمناً باهظاً، ولما قلت إننا فى حالة حرب على إرهاب غادر ونحيا حياة عادية (كورة وأهلى وزمالك ورامز تحت الأرض!) رد الحصيف: هذا مطلوب «بلد يعيش حياة عادية» ولكن بحذر شديد، وضرب الشقوق المتأخونة البعيدة عن عيون الأمن، وهنا يبرز دور الناس الوطنى المفترض.
■ ■ ■
وقلت مرة لصديقى الحصيف: طلبت من شخصية مرموقة الحوار، فقال لى دون أن يفكر «نؤجله شوية». رد الحصيف وقال «ليس مطلوباً البورتريه» وصمت! قلت إعجاباً بحكمته: هل بعض الأسماء الكبيرة تستأذن فى الحوار؟ نظر لى نظرة ذات مغزى وقال لى «انت عشت عصراً من الحوارات مع وزراء سياديين ورؤساء حكومات وكان يسبقها استئذان وتوقيت وما يسمى بالملاءمة السياسية. وحين طالعت الصحف ذات يوم وقلت له هل اختيار الكثير من المناصب برضاء الأمن؟ رد الحصيف وقال: لماذا تسأل سؤالاً فيه إجابته؟ قلت: والكفاءة؟ قال بسرعة: بل قل الولاء. حكيت لصديقى الحصيف إننى قابلت مدير مكتب الرئيس عند الفريق مميش فى الإسماعيلية. وكان بشوشاً مضيافاً ولكنى لم أطلب هواتفه وكيف أتواصل معه. وقابلت الرجل الفاضل رئيس ديوان رئيس الجمهورية فى مؤتمر الشباب الأول وكان راقياً وهو يقدم لى نفسه، لكنى لم أطلب كزملاء آخرين أرقام التواصل معه. بمَ تفسر هذا؟ رد الحصيف وقال: من الناحية المهنية لا أوافقك، فمن المهم التواصل مع هؤلاء ولكنك «شبعان» اتصالات. قلت له: صدقت! ثم سألنى: هل كنت تملك الاتصال بمبارك؟ فقلت: نعم وعن طريق سكرتيره الشخصى اللواء جمال عبدالعزيز، رحمه الله، ما طلبت الرئيس مرة إلا وقال اطلبنى بعد ساعة ويتم الاتصال عبر التليفون الأرضى. رد صديقى الحصيف وقال: «لكل زمان فرسان». ذات مرة قابلته وكنت غاضباً من أن الحكومة «لا تقرأ» فهمس فى أذنى: «اشترى دماغك، هذا تقليد»، قلت ولكننا نشترك معاً فى المسؤولية. قال: هم مسؤولون فقط أمام الرئيس.
■ ■ ■
تعلمت أن لا أحد «يحتكر» الحقيقة حتى الرئيس نفسه يجتهد ويفكر ويسألنا. وبالمناسبة ما كنت أجرؤ أن أكتب أن عبدالناصر لا يحتكر الحقيقة، وإلا توقعت زوار الفجر بعد منتصف الليل. نعم فى حياتنا رئيس من الممكن أن تختلف معه دون أن يصيبك أذى شريطة أن يكون الخلاف حول هموم البلد.
قلت لصديقى الحصيف: أحياناً أشعر أنى أسير فى طريق مسدود وأسأل نفسى ما جدوى الكتابة؟ قال صديقى بثقة: إنك تكتب بانتظام فى «المصرى اليوم» وفى «صباح الخير» ومؤخراً فى «أخبار اليوم»، وهذه ظاهرة صحية، فالمواظبة «التزام» ذاتى وليس إلزاماً. وأنت لا تدرى ماذا حدث لعقول خاطبتها على مدى نصف قرن.
واستطرد الحصيف يقول: لاحظت أنهم يصنفونك بأنك «مذيع السلطة». أنت تحاور السلطة فى قضايا الناس ولكنك لا تزين للسلطة بطشها بالناس وإلا انفضوا عنك. قلت لصديقى: الناس «ترى» ولا تقرأ. قال: هذا حقيقى، والناس تحفظ لك عن ظهر قلب عبارات ذات دلالة قلتها على الشاشات. قلت: لم أنطق بها من باب الزعامة، إنما صياغة أدبية لآهات الشارع وإن كنت أراها دخاناً فى الهواء. ولكن دعنى أسألك: ما رد الفعل الحصيف للنفسنه والحقد والرغبة فى الإيذاء؟ رد الفعل قاله مصطفى أمين «الشجرة المثمرة يقذفها الصبية بالطوب» وقلتها أنت حين صككت حزب أعداء النجاح.
قلت للحصيف: من متابعتى للحياة السياسية فى مصر اكتشفت قلة ثقة العسكريين فى المدنيين. رد بهدوء: هذه عقيدة قتالية فهو يقاتل ولا يثق إلا فى ابن الكتيبة. قلت: إن السيسى يراهن على شباب فى المواقع ولهم أمراض كالغرور والتباهى والاستعلاء وتفرضها قلة الخبرة والتجربة.
قال صديقى الحصيف: الصبغة العملية «امتحان» للشباب ولكن قف مع رهان الرئيس بمرونة ذهنية فقد نكتشف عناصر قيادية ومهارات شخصية.
■ ■ ■
قلت لصديقى الحصيف: أعترف لك بتقصيرى فى الكتابة عن «المجتمع المصرى» جروحه، عوراته، انكساراته، لخبطته، تناقض القيم عنده، وحنوه للخرافة. رد الحصيف: هذا اعتراف يصدر عن شجاعة. قاطعته: فى الصحافة أعمدة كلها تدلو بدلوها فى السياسة و«العدد فى الليمون» ولعلها ندرة أن جاء عمود مهموم بالمجتمع. أنا أشعر أنه قد حدث زلزال فى البيت المصرى وتفسخت جدرانه رغم الصمود الظاهرى. أنا أشعر أن الأمية الضاربة أطنابها فى الريف المصرى حافظت على الموروثات المتعفنة وجعلتها أسلوب حياة. هنا قال صديقى الحصيف: هذا تشخيص حميد للمجتمع المصرى، لماذا لا تخوض فى هذا البحر؟ قلت: مات سيد عويس ومات أحمد خليفة ولم يعد هناك من فرسان العمل الاجتماعى «المهمومين حقاً» به. قال صديقى: ابدأ بسلسلة مقالات عن «مصر الأخرى». قلت: هل تتوقع اهتماماً بما أكتب؟ هل تتوقع حلقات دراسية كالتى يفعلها الرئيس فى مؤتمرات الشباب؟ هل أتوقع «صك شعار جديد» عن المجتمع يمهد لعلاجات معنوية طويلة الأجل؟ قال صديقى الحصيف: لا تتوقع الكثير من الدولة «فيها اللى مكفيها». يكفى أن نكتب بإخلاص ولديك مهارة الحوار الذى شهد به لك هيكل. ومن الممكن أن يكتب آخرون وتتولى وزيرة كغادة والى الدعوة لجلسات حوار وتتعاون معكم قناة تليفزيونية مهمة بمصر الأخرى. قلت: أنت تتكلم عن عمل مؤسسى فهل أحلم؟ وصمت صديقى الحصيف ثم قال: هكذا أتصور، فأى عمل اجتماعى هو «عمل سياسى» فالناس هم أنا وأنت وهو وهى.
■ ■ ■
لولا صديقى الحصيف لانفجرت غضباً، فهو يمتص هذا الهمّ «الخاص العام». ولست وحدى المهموم بالبلد، هناك الملايين تسكن مصر قلوبهم بصدق، ملايين من البسطاء، لا الزعماء ولا الناشطين ولا النخبة. إنما هم صناع النهضة والفاعلية. إنهم «الوجوه» السمراء البعيدة عن الضوء المصنوع. هؤلاء الذين تسقط عليهم شمس الصباح كل نهار.