الإجابة حاضرة على ألسنة أغلب المعلقين المهتمين بالشأن السياسى: سيُعاد انتخاب رئيس مصر الحالى لولاية ثانية. الرئيس لم يعلن صراحة عن نيته فى الترشح، رغم أنه لم تتبقَّ إلا أشهر معدودات على انتهاء ولايته، ولم تتبقَّ إلا أسابيع حتى تنهض الهيئة الوطنية للانتخابات بمهامها الدستورية فى الإعلان عن فتح باب الترشح وبدء إجراءات العملية الانتخابية.
هناك رسائل ضمنية تشير إلى أن الرئيس السيسى سيترشح لولاية ثانية، منها- بمفهوم المخالفة- ما صرح به من أنه سيلتزم بالنص الدستورى بعدم الترشح لأكثر من دورتين، ولن يسعى إلى تعديل هذا النص، علماً بأن تعديل المادة (140) المتعلقة بالمدة محظور بنص نفس الدستور (م 226). كان من المتوقع أن يصل فقهاء السلطان إلى تخريج قانونى يسمح بذلك مثلما وصلوا إلى تخريج قانونى فاسد يسمح بمد حالة الطوارئ للمرة الثالثة. هذه مدرسة من أهل القانون يطلق عليها مدرسة (تحت الطلب)، ترسخت تقاليدها فى السبعين سنة الماضية. العائد الذى يعود على المنخرطين فى صفوفها مُجْزٍ للغاية. ولكن لا أظن أن فقهاء هذه المدرسة سيجرأون على الإقدام على ذلك، لسبب واحد أن الرئيس قد أغلق هذا الباب تماما بتصريحاته الحاسمة.
تصريح الرئيس يشير ضمناً إلى أنه ينوى التقدم للترشح لولاية ثانية. هذا حقه الذى لا مراء فيه. وفى نفس السياق صرح سيادته بأنه ينوى تقديم بيان بإنجازاته إلى الشعب. ونرجو من جانبنا أن يكون البيان محوراً لنقاش مجتمعى حر لا قيود عليه، وألا يكون مجرد سرد لأرقام صماء يعدها التكنوقراط كما تعودنا من الرؤساء السابقين.
ما يفسد المشهد هو تلك الحملات التى خبرها المصريون، والتى تطالب الرئيس بالترشح لفترة ثانية (علشان يبنيها). حملات تديرها أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة وإعلامها، فى ظل حظر صارم على الحملات المقابلة من مرشحين آخرين محتملين.
هذه الحملات المؤيدة كان يمكن فهمها (وليس تبريرها) أثناء الترشح للولاية الأولى، لأن مصر كانت تسعى للاستقرار، ولأن الخيارات السياسية والاجتماعية لمرشح المؤسسة العسكرية لم تكن معلنة. كان المستهدف سابقا من هذه الحملات المُدارة أمنيا إشاعة اقتناع عام بأن الترشح مطلب شعبى، وأن المرشح قد امتثل مشكوراً لإرادة الشعب.
الإطار السياسى والاجتماعى المحيط بالعملية الانتخابية لسنة 2018 جد مختلف. لم يعد المرشح الرئاسى مرشح ضرورة. الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للرئيس أصبحت واضحة، وتم تطبيقها بالفعل.. هنا يصبح الفيصل لصندوق الانتخابات فحسب وليس لحملات تهليل دعائية تسىء داخليا ودوليا لمجمل العملية الانتخابية.
الأمر يؤخذ على أحد وجهين: إما أنه يُراد الإيحاء بأن الرئيس متردد فى الترشح، ولذلك تمارس الجماهير ضغوطاً عليه لحسم تردده، ولا أظن أن هناك ترددا أو ضغوطا جماهيرية. ولو صح ذلك لما كان لأى ضغوط أن تفلح فى ممارسة أى تأثير. الوجه الثانى أن القائمين على أمر هذه الحملات يقدمون عربون ولاء مسبق عسى أن يأتى بغنم بعد إعلان الفوز. وكل من هذين الاحتمالين يسىء لمظهر العملية الانتخابية برمتها، ويخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين، ويخالف قانون الانتخابات الرئاسية.
هذه الحملات الدعائية المبكرة محظورة بنص المادة 18 من قانون الانتخابات الرئاسية، والتى تقول: «تبدأ الحملة الانتخابية اعتبارا من تاريخ إعلان القائمة النهائية للمرشحين حتى قبل يومين من التاريخ المحدد للاقتراع.. وتُحظر الدعاية الانتخابية فى غير هذه المواعيد بأى وسيلة من الوسائل، وتتضمن الدعاية الانتخابية الأنشطة التى يقوم بها المرشح ومؤيدوه، والتى تستهدف إقناع الناخبين باختياره، وذلك عن طريق الاجتماعات المحدودة والعامة والحوارات، ونشر وتوزيع مواد الدعاية الانتخابية، ووضع الملصقات واللافتات، واستخدام وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمطبوعة والإلكترونية، وغيرها من الأنشطة التى يجيزها القانون أو القرارات التى تصدرها لجنة الانتخابات الرئاسية». وتفرض المادة 56 من القانون عقوبة على مخالفة ذلك.
نحن نريد انتخابات رئاسية تليق بمكانة وهيبة رئيس مصر، وهى أقدم دولة عربية وأفريقية فى الممارسة الديمقراطية، عرفت إرهاصاتها منذ عام 1866 عندما شُكل مجلس شورى النواب. نريد أن نعلن للعالم أن رئيس مصر بعد ثورتها الكبرى فى يناير 2011 قد جاء بإرادة الشعب الحرة، وليس بتخطيط الأجهزة وإعلام الأجهزة وحملات الأجهزة وتدخلات مؤسسات الدولة. هناك فارق بين المشروعية القانونية والمشروعية السياسية والأخلاقية. المشروعية القانونية منوطة بالالتزام الشكلى بالقانون والدستور وبقرارات الهيئة الوطنية للانتخابات تحت رقابة القضاء، أما المشروعية السياسية والأخلاقية فهى ما وقر فى ضمير الناس وصدّقه العمل فى الممارسة.
حتى الآن لم يعلن عن النية فى الترشح سوى ثلاثة أشخاص، هم: الفريق أحمد شفيق، والأستاذ خالد على، والعقيد أحمد قنصوة. الثلاثة يجرى حصارهم بشكل أو آخر. الفريق شفيق فور إعلانه من دولة الإمارات نيته فى الترشح وعزمه على بدء جولته الخارجية بدءا من فرنسا، عومل المعاملة التى تليق بالكبراء من المارقين مثلما حدث مع الأمراء السعوديين ومع الرئيس سعد الحريرى. وتم ترحيله إلى مصر، مع بقاء أسرته فى الإمارات. وفى مصر توجه موكبه من المطار مخفورا مجبورا إلى أحد الفنادق الفاخرة. وفى برنامج تليفزيونى شهير عدَل «شفيق» عن نيته فى الترشح إلى نيته فى دراسة الترشح، وقد تفضى الدراسة به إلى أن يتوب توبة نصوحا ويعزم على ألا يعود.
لا أتحدث عن جدارة المرشحين، ولكن عن الحق فى ممارسة الحقوق السياسية وفقا للدستور.
العقيد أحمد قنصوة قُدم إلى محاكمة عسكرية. الرجل من وجهة نظرى تجاوز الأعراف العسكرية. ولكنه يزعم أنه خاطب الشعب بزيه العسكرى اقتداء بالمرشح المشير السيسى فى الماضى. الفرق أن المشير السيسى كان قد حصل على موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ورغم ذلك فظنى أن تقديم العقيد قنصوة للمحاكمة غير ملائم سياسيا. سيظهر الأمر أن النظام ينكل بالمنافسين.
أما ما حدث مع المرشح خالد على فهو أكثر فجاجة وسفورا وافتقارا للياقة السياسية والملاءمة القانونية. خالد على هو المحامى الجسور الكفء فى قضية الجزيرتين، والذى استصدر حكما باتا ببطلان التنازل عنهما، ولم تلتفت له الحكومة ولا برلمانها.
قُدم خالد على للمحاكمة، بعد إعلانه نيته فى الترشح، بتهمة يخجل من ترديدها كل صاحب حس بشرف الخصومة. هذا ليس صراعا سياسيا، بل إقصاء مدبر أمنيا.
هل يسعد الرئيس أن يكون مرشحا بلا منافسة؟، أو أن تصطنع له الأجهزة منافسين حسب المقاس سدا للذرائع؟، هنا نعيد الحديث عن المشروعية القانونية والمشروعية السياسية والأخلاقية.
المشروعية السياسية تتطلب الاحترام الكامل للحق الدستورى فى الترشح، وعدم التضييق على المرشحين وتصيُّد أخطائهم. ولا يُقبل أن تجرى الانتخابات فى ظل سريان حالة الطوارئ. ولابد من ضمانات صارمة تتمثل فى حياد الدولة وأجهزتها وإعلامها، وتأمين حق المرشحين المتساوى فى الدعاية الحرة لمدة معقولة أتصور ألا تقل عن شهور. ولابد من الرقابة الدقيقة على الإنفاق، والشفافية فى فرز الأصوات وإعلان النتائج فى اللجان الفرعية بحضور مندوبى المرشحين، وإدارة الانتخابات بواسطة حكومة محايدة.
نريد انتخابات رئاسية تليق بمكانة مصر ورئيسها، وإلا فالعودة إلى الاستفتاءات الصورية أكثر مناسبة وتناسقا من النظام مع النفس.