نهال علام …. تكتب الصخرة

بقلم الكاتبة والاعلامية نهال علام
قالوا الفنون جنون، ولا أدري من أعطاها تلك الصبغة التى بها الكثير من الظنون، ولأن بعض الظن إثم فبعضه الآخر يقين، وما رأيته كان عين اليقين والحق المبين بأن الفنون ولو كانت مجنونة فهي درب للكثير من الحقائق المكنونة.
تصيبني تلك المتلازمة الشهيرة، أن أتلقى دعوة لحضور إحدى العروض المسرحية فأصاب بسعادة شديدة، وتتملكني حالة فريدة من الشغف والرهبة لتلك الخشبة العريقة، وهذه المرة لم تكن ككل مرة بل كانت الفرحة مضاعفة، فالعرض بمسرح الأنبا رويس بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس بالعباسية، يا لها من أمسية بهية!
ذهبت كطفلة صغيرة تشاهد صندوق الدنيا مرة من مرات كثيرة، ولكن كل مرة وكأنها أول مرة!
تلقيت الدعوة من فرقة الصخرة التى عودتنا أن تقدم في كل عرض صرخة، صداها يلامس الخيال الذى ينبع من رحم الحقيقة، وتلك هي لب النبتة التى تطرح من قلب فرقة الصخرة العتيدة!
“بيت الحلواني” هو اسم العرض ووصفه فهو يحكى عن الشارع المصرى الأصيل بكل صفاته الأثيرة، فقد اعتدنا ونحن في سنوات العمر الصغيرة أن الشارع بمثابة امتداد للبيت والجيران هم باقي أفراد الأسرة، والقيم التى نتعلمها في جنبات البيوت الصغير نمارسها في طرقات الشارع الكبير، فذلك الشارع يتسع للعب والمرح والكرة والعجل والمسابقات والمناوشات، هو مسرح الحياة الأول الذي نستمع فيه للمشكلات ونقلد الكبار في إيجاد الحلول ومخرج آمن للعبور من الأزمات.
وذلك هو بيت الحلواني الذي يمثل البيت والشارع والمواطن المصري، العرض بمثابة وجبة متكاملة الأركان الفنية من سلاسة الصور لروعة الجمل والأفكار لتتابع الحوار بصورة شاعرية بسيطة للعقل وقريبة من العقل، قدم لنا شريحة أفقية للحارة المصرية بها المثقف والجاهل، العامل والمهني، الغنى والفقير ، الشهيد والأرهابي، تضافرت الأحداث في القالب الموسيقي الذي أضفى على الحدث بصمة سمعية مميزة، تميز العرض بتوظيف الأغنية في قالب درامي يزيد الأحداث زخماً وليست لمجرد الإضافة أو الإطالة الغير مضنية.
تزامن العرض مع ذكرى ٣٠ يونيو، وكان نِعم الاحتفال في تلك الذكرى العطرة، وما زاد الليلة تشريفاً هو أن شهد افتتاح العَرض عدد من أمهات الشهداء الذي أهتم العَرض بتكريمهم والقاء السلام على أرواح أبنائهم، فكانت صرخة لا للأرهاب هي إحدى الصرخات المدوية التى زلزل بها فريق الصخرة جنبات المسرح وقلوب الجمهور.
ولم تكن تلك الصرخة الوحيدة فالتحرش والعنف ضد المرأة ونشر الشائعات، كلها صرخات خرجت من جنبات العرض، فهي رؤية مسرحية كاشفة لتفاصيل مشكلات متغلغلة في ثوب مجتمعنا، فتركت به أدناساً تسبب فيها أناساً تناسوا هويتهم المصرية فظهرت عقد مجتمعية لا تتناسب مع حضارتنا الإنسانية.
بيت الحلواني هو أحدث عرض لفرقة الصخرة، وهذا العرض إنما يشهد بحالة نضج فنية، توعد بالكثير من المحطات الواعدة التى ننتظرها بفارغ الصبر، فهو يأتى بعد محطات ابداعية عديدة على مدى سنوات ليست بالكثيرة ولكن كانت جميعها أعمال عظيمة، ومنها الحب المحرر، صرخة مدمن وبالشباب تحيا الأمم واصحى يا نايم.
فريق الصخرة هو تجربة رائدة اتمنى لو يتم تعميمها في المدارس والجامعات والنوادي، فالفن هو صخرة الوطن الصلدة التى يتحطم عليها كل المعتقدات الصدئة، فالفن له آلية بديعة وهي تنقية الوطن من شوائبه المريعة، وهنا يجب أن نوجه التحية لمخرج العمل ومايسترو المواهب الفنية المبدع جمال المصري، الذي قدم خلطة عبقرية من الوجوه التى لم يهتم بمرحلتها العمرية إنما بموهبتها الشخصية، كما أنه اتاح تقديم العمل مرتين متعاقبتين ليمنح المواهب الجديدة فرصة مواجهة الجمهور وكانت بالفعل تجربة فريدة.
أما عن النص الذي ذكرني بحلقات ألف ليلة وليلة، من الكلمات الموسيقية واللغة الشعرية والحوارات التصويرية، حتى إعداد السكريبت الخاص بتقديم الحفلة اتسم باللغة العذبة، لذا كل التقدير للشاعر والمؤلف مدحت عوض ذلك الفنان الذي يغزل الحروف فيصنع منها أجمل الكلمات.
وعندما نتحدث عن روح العمل يجب أن نشكر الموسيقى التصويرية فهي لوحة إبداعية صممها الموسيقار عمانويل سعد.
تألق على خشبة المسرح العديد من النجوم اللامعة التى احتضنت المواهب الجديدة الشابة الأداء ومنها المبدع الفنان مجدي شكري، عاصم سامى، هانى محروس ،منال محروس ،محمد نور ،محمود عاشور، روماني عدلي ونيڤين المصري.
شكرًا لصناع العمل ولكل القائمين عليه، ولازلنا في انتظار المزيد من الأعمال الوطنية والاجتماعية والرومانسية الهادفة، فهى مسيرة عطاء، والفن هو القوى الناعمة والداعمة والفاعلة في طريق البناء، وأول محطات الرخاء.