مقالات

مفيد فوزي…. يكتب هيكل الآخر!

-1-

بغياب محمد حسنين هيكل، غاب التحليل السياسى الدسم والمتغلغل فى الأحداث، المشتبك بالواقع والقادر على قراءة كف الزمن! بغياب هيكل سقط ركن من عمارة المهنية والاحترافية، كان «الأستاذ» يثريها بصياغاته النادرة فى الكتابة. ومن منا أبناء جيله لم يتأثر به إلى حد محاولة تقليد أسلوبه؟ ومن باب الاعتراف فقد وقعت فى الفخ، وكنت مأخوذاً به مفتتناً بصياغة مقالاته أو تحقيقاته أو تعليقاته. وفى يوم من الأيام، وكنت بعد محرراً ناشئاً فى مجلة صباح الخير وكلفنى أحمد بهاء الدين بالسفر إلى أسوان لمتابعة عمال السد العالى. وسافرت وتقمصت شخصية هيكل وقدمت التحقيق لرئيس التحرير وكنت قد حلقت فى فضاء هيكل وضبطت نفسى أقلده، وإذا بأحمد بهاء الدين ينفجر فى وجهى، وقال يحذرنى «مفيش غير هيكل واحد بس فى مصر»، وأضاف «كن نفسك»! وحزنت حتى الرغبة فى البكاء وأنا أشطب بيدى المقدمة التى كانت أشبه بافتتاحية موسيقية لسيمفونية! كنت أعلم أنه فى بداية المشوار هناك مرحلة مراهقة مشروعة للصحفى أن يقلد اسماً كبيراً وقع فى غرامه المهنى. وقد كان التخلى عن طريقة صياغة هيكل من الأمور الصعبة. فأنا وقعت مغرماً بالأستاذ منذ اشتريت مصادفة أحد كتبه الأولى «إيران فوق بركان». قرأت سيناريو أخاذا يستولى على قارئه دون أن يشعر! كنت أرى فى «الأستاذ» نموذج النجاح الباهر والقدرة على التأثير بالكلمات. وكيف لا وعبدالناصر قرَّبه من رأسه وصارت مقالاته «بصراحة» تعبيراً عن «منهج نظام». وفى ذات «نفسنة» قال أنيس منصور إن «عبدالناصر هو اختراع لهيكل»! وكم طالت السهام قامة هيكل، ولكنها ارتدت لأصحابها بخيبة أمل. ولعل «الأستاذ» كان هدفاً لمدفعية كتائب الغيرة والحسد والحقد لمن لا يملكون سحر قلم «الأستاذ» ولا عبقرية صياغته أو تفرده فى الأسلوب. وحين اختاره عبدالناصر ليكون على رأس الأهرام، كان أهرام هيكل يضم النخبة المؤثرة فى وجدان مصر وضرب مثلاً يحتذى به فى صحافة عصرية تخاصم التقليدية المحنطة، إذا أذن التعبير، ومضت الأيام وكبرت وكونت أسلوبى ولكن بقى الحب للأستاذ والإعجاب به مساحات فى قلبى شاسعة وصرت أنا بالنسبة له «صديقاً وصحفياً ونجماً من ألمع نجوم الحوار ومهارتك التى نشهد بها جميعاً». من خطاب منشور فى مجلة نص الدنيا تحت رئاسة سناء البيسى.

-٢-

ويوم أجريت حواراً مطولاً مع «الأستاذ» استغرق عدة أسابيع بين مكتبه فى بيته المطل على النيل وحديقة بيته الريفى فى برقاش والمصيف فى الساحل وحجرة مكتبه فى فندق بلندن كتب لى مقدمة الحوار المطول المفكر مصطفى الفقى الذى قال «اختار مفيد فوزى منذ البداية الولاء الكامل للمواطن العادى الذى يعمل من أجله ويحاور ليضع الحقيقة بين يديه». ولمس الفقى وتراً حساساً حين قال «على اختلاف الأرضية الفكرية فإن حبال المودة كانت موصولة بين الطرفين». نعم ما زلت أتذكر جهود «الأستاذ» لعودتى للكتابة من بعد فصل استمر ١١ شهراً! وأيضاً لا أنسى «دروس» هيكل الآخر، الإنسان والرجل. قال لى الكثير وكان موجزاً لكنه كان معبراً.

■ الهجوم عليك، اعتراف بك.

■ أطلع جرنال جديد، أعوذ بالله.

■ لا تهزنى حوادث الغدر والخسة. فالطبيعة البشرية جزء من الحياة.

■ حياتى اليوم هى حياتى المستمرة ولا أجردها من الأمس.

■ لا تشغل البال بماضى الزمان.

■ إشعال الذاكرة القومية من حين لآخر، ضرورة.

■ أعتقد بشكل أو آخر أن الصمت فى مهنتنا ضرورة لتراقب. إنه صمت التأمل.

■ أمى زرعت فىَّ الطموح وأحفادى دنيتى.

■ المثقفون الذين عينتهم فى الأهرام ليسوا حلى ذهبية لأزين بها صدر الأهرام ولكن لهم وظيفة ودور لا غنى عنه لمصر.

■ اقترحت عليك الذهاب إلى «باربيزون» القريبة من باريس يوم كنت مريضا لأنها غابات هواء نقى تعنى «خيمة أكسجين» تحتاجها.

■ أنا رجل متأهب للظروف.

■ الصحافة، أكثر مهنة تعلمك أهمية التوقيت.

■ نعم، اختلفنا عبدالناصر وأنا لكن خلاف الأصدقاء.

■ كنت قريباً من عبدالناصر، لكن حكاية الرجل الثانى غير مطروحة.

■ لست مغرماً بالشعور بالندم.

■ كل ثورة لها تجاوزات وينطبق هذا على ثورة يوليو.

■ أحمد بهاء الدين كان من مباهج الصداقة حتى جلطة المخ وكان قلبى مكسوراً.

■ الريحانى ينتزع الضحكة منى، مع أنه شخص غير مرح.

■ الاختلاف فى الرأى دليل عافية الحوار.

■ فى برقاش منزلى الريفى أجد نفسى وبيتى فى الجيزة هو «البيت الاجتماعى».

■ إيقاعى أسرع من العادى ولا أستطيع البقاء طويلاً فى حفلات أم كلثوم.

■ القارئ فقط هو فقط صاحب السيادة فى حياة الصحفى، يعنى أنت تعمل فى خدمته.

■ حين يهاجمونك، ردد مقولة «برنارد شو» مثلى «إنهم يقولون، ماذا يقولون، دعهم يقولوا».

-٣-

يوم راح هيكل كان نحيب الكلمات خافتاً، لكنه كان مؤثراً بعمق فهذا «الأستاذ» علمنا مهارات فى الكتابة كانت غائبة عنا. وعلمنا أن المعرفة والقراءة والموهبة هى خلطة نجاح صحفى يقود الذكاء عقله. وعلمنا أن الجورنالجى ليس أداة فى يد سلطة، إنما محاور لرأسها.

يوم راح هيكل طال الجفاف بساتين الحروف، فاصفرت كالحة حزينة. يوم راح هيكل، تعثرت قدما الصياغة الصحفية فى اللاحترافية. يوم راح هيكل، أنهى عصراً من الصراحة كان مثل الخبز زاد الناس، موهبة الأستاذ الخارقة كانت قبل عبدالناصر وبعده. يوم راح هيكل أقام الجورنالجية سرادق عزاء فى القلوب والصدور.

يا أستاذ، سنفتقد قلمك ما حيينا، ونفتقد طلتك على الشاشة ما دامت السياسة شغل الناس وشاغلهم!

بوابة الشباب نيوز

جاء إطلاق بوابة الشباب نيوز على الانترنت ليكون وسيلة لمعرفة الاخبار اول باول، ويمثل إضافة قوية في الفضاء الالكتروني، وجاءت انطلاقة الموقع من مصر من قلب الاحداث ليهتم بالثورات العربية والمشاكل السياسية ويغطى الفعاليات الاقتصادية والرياضية ويواكب علوم التكنولوجيا ويغطي اخبار المرآة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى