مفيد فوزى…. يكتب القيل والقال!
ليس هناك فى مصر أسوأ من ظاهرة «القيل والقال» المتفشية فى كل الأوساط، النابعة من فراغ ورغبة متوحشة فى «الحكى». الناس فى مصر مفطورة على حب الكلام ولو كان تأليفاً لا يمت للواقع بأدنى صلة. المدهش فى الأمر إتقان السيناريوهات الخيالية كما لو كانت تطابق الواقع. ويبدو أن ظاهرة النميمة عالمية ولكنها فى الأوطان العربية لها مساحات من الوقت والقدرة الفائقة على الكذب بصدق، أى الكذب المحبوك. فى الأوطان العربية- أكثر الأوطان استخداماً للـChating على مواقع التواصل- يحلو لبعض الأشرار المرضى إشاعة وفاة شخصيات عامة وثبت كذبها وبهتانها. وعندما أقول إن القيل والقال يتمدد فوق أجهزة التواصل ويسبب الإيذاء المتعمد لكثيرين ندرك قدر الإساءة فى استخدام التكنولوجيا وهذا دليل الانبهار إلى حد اللعب بالنار. ودليل آخر على الرغبة فى انتهاك خصوصيات الآخر. وفى جيلى كانت الخصوصية مصانة وكانت الحرية الشخصية مصانة وعندما جرت وقائع ثورة يوليو وأضير البعض من إجراءات الثورة بدأ الهمس وبدأ القيل والقال حتى إن عبدالناصر لفت النظر فى إحدى خطبه إلى ما سماه «قعدات نادى الجزيرة» وأصبح مفهوماً أن بعض المتعاملين مع الثورة – من الباطن – نقل إلى عبدالناصر ما يدور فى هذه «القعدات» من انتقادات حادة لثوار يوليو. وأظن أن القيل والقال كظاهرة تنشط فى مجتمعات تطرح أسئلة ولا تجد إجابة!.
■ ■ ■
زمان، كان الأمن يدس أشخاصاً فى المجتمعات لينقلوا له ما يدور همساً عن السلطة. وفى فترة ما كان هناك جناح فى المخابرات العامة يحلل «النكت» و«الإشاعات» ولم يعد رجل المخابرات يخفى نفسه، فالأجهزة تجاهر برغبتها فى معرفة بواعث القيل والقال. الآن ما عادت صيغة الهمس قائمة مثلما أنهت التكنولوجيا مهمة الجاسوس الذى كان. الآن يكفى جاكيت من مادة معينة والزراير مجرد عدسات وميكروفونات تنقل مباشرة كل القيل والقال، ومن هنا كان الموبايل جاسوساً ولا ندرى ولهذا يحتفظ بعض الساسة فى مصر أو فى العالم بموبايلات بدائية قديمة وليست من ذلك النوع الذى يطلق عليه Smart تحسباً لسرقة المادة المخزنة عليه. إنه تليفون تطلب رقماً أو ترد على رقم وليس فيه أى مميزات إضافية وصفه لى أحد السفراء بأنه «Safe». والقال والقيل امتد إلى المقاهى التى انتشرت بشكل غير عادى حيث تناقش على أنفاس الشيشة كل الأمور ما بين مؤيد ورافض. والمقهى – كما كان يسميه د. سيد عويس – «المنصة الشعبية المفتوحة»، حيث يختلط فيه الجدية بالعبثية وحيث «يفرغ الناس من همومهم الخاصة بالسخرية» والسخرية أحد أسلحة المصريين فى الاعتراض.
■ ■ ■
على المستوى الشخصى أكره القيل والقال، فلا أظن أنى سلمت أذنى يوماً لأحد وأنا على رأس مطبوعة قومية هى صباح الخير «62 كاتباً وصحفياً ورساماً»، لأن ذلك حسب تقديرى «مضيعة للوقت» بالإضافة إلى أن القيل والقال «يوغر الصدور» والأمر الثالث أن الإجهاد الذهنى لعمل رئيس تحرير لا يعطى أى مساحة للإصغاء لفحيح الثعابين، ولكن هناك بعض الناس على اختلاف مواقعهم يعطون آذانهم للغير وغالباً ما تكون النتائج سلبية، فهو يتصرف تجاه الآخرين «بنفسية معتمة» وأنا أعنى العبارة. الأمر الآخر لكراهيتى تسليم أذنى لأحد «تسليم محارة» أننى أعطى إشارة إلى سبيل التعامل معى ونقل «القيل والقال كما هو بتطاولاته» كوسيلة للتقرب أحياناً يلجأ إليها رئيس العمل، كأسلوب للإحاطة بما يدور خلفه، وهنا تكمن السلبية القومية حين يكون هذا أسلوب وزير أو رئيس مؤسسة أو رئيس شركة. بعض السكرتيرات ذات الشخصية والكفاءة يرفضن نقل همسات الموظفين لرئيس العمل وقد يغادرن الوظيفة غير آسفات. لكن المهم أن الظاهرة تجد مرتعاً خصباً فى حالة «الرحرحة» والجهد المحدود، وربما كانت دواوين الحكومة أبلغ مثال على ذلك!. أما فى القطاع الخاص، فلا وقت ألبتة لقيل أو قال لأن الجميع يعمل بمنهج الأوركسترا العازف ولا وقت للنشاز. والنشاز هو تسليم الودن لهمس مسموم، وكثيرا ما راح البعض على أثر ما نسب إليه من قيل وقال ونقلته أذن ثالثة، هى الجحيم كما يطلق عليها دانتى. هذه الأذن نقلتها صدقاً أو كذباً، لكن أثرها كان خراباً. وأنا يسكننى مثل شعبى قديم هو «ما شتمك إلا من بلغك» ومغزاه لا يفوت على أى فطن!.
■ ■ ■
القيل والقال هو «مجتمع النميمة»، ومن الغريب والمذهل انتشاره فى أوساط المثقفين وقد يصل أحياناً إلى حد «الاغتيال المعنوى». فلان قال، وعلان قال. وفلانة قالت وعلقت على كلامها علانة وتخرج من الجلسات حكايات مسبوكة وتصبح صكوكاً منسوبة للمجهول!، وتسمع كمة «قالوا» عشرين مرة فإذا أردت التحرى والتقصى عن هؤلاء الذين «قالوا» لن تأخذ إجابة شافية. يوماً ما فى زمن ما، كان القرب الجغرافى من أذن المسؤول الذى يهمه أن يعرف كل همسة وكل شاردة، «مؤهلا» مهما فى طاقم المسؤول. وقد يكذب الواشى إذا أراد أن يطيح بأعدائه أو بمن ينافسونه على المقعد الوثير. هذا الواشى الذى غالباً ما يتمتع بخيال خصب، كنا نسميه «الخبَّاص» وقد تعودت طيلة عمرى ألا أدخل فى الصلح بين زوجين متخاصمين أو بين صديقين متخاصمين حتى لا يطالنى شظايا «العتاب الضارى»!!، وهنا ينطبق كلام الحس الشعبى «ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه»!.
■ ■ ■
القيل والقال «لغة فراغ» وهو «أداة ذبح واغتيال» وفى دنيا السياسة «واحد من معاول الهدم»، والدولة قادرة على سحق هذه الترهات إذا اقتربت من الثوابت. أتذكر مثلاً شعبياً يقول: «الإيد البطالة نجسة» ولا يخفى على أحد مغزاه…. و.. والعقل البطال.. أيضاً.