فاطمة ناعوت…. تكتب فى الوحدةِ يصنعُ الإنسانُ كُرةً.. أو يُطلقُ رصاصة
حينما يشتدُّ على إنسان شعورُ الوحدة، ماذا يصنع؟ حين يرى العالمَ من حوله خاويًا رغم وجود الناس، يشعرُ بوجعٍ قاس قد يدفعه إلى إنهاء حياته برصاصة كما فعل «ڤان جوخ» فى مثل هذه الأيام ٢٩ يوليو ١٨٩٠، أو قد يصنعُ بيديه صديقًا يؤنسُ وحدته كما فعل «توم هانكس» فى فيلم «المتروك جانبًا Cast Away الصادر عام ٢٠٠٠
الفنان الهولندى الأشهر «ڤان جوخ» عاش فقيرًا ولم يلقَ فى حياته تقديرًا يستحق. بقروشه القليلة كان يشترى عُلب الألوان بدلَ الطعام، لأن الرسمَ شريانُ الحياة الذى يضمنُ بقاءه. لم يعلم أن لوحاته، التى رسمها بعصارة حزنه وشعوره الدائم بالوحدة، ستغدو بعد موته الأعلى سعرًا، وأن متحفًا عظيمًا سوف يحمل اسمَه فى ميدان المتاحف بالعاصمة الهولندية أمستردام. أذكرُ تلك اللحظات الأسطورية التى قضيتُها متجولة بين أروقة ذلك المتحف وأنا أقفُ مشدوهةً أمام كل لوحة من لوحاته. يا إلهى! كم اختصّ اللهُ واهبُ المَلَكاتِ، مانحُ النِّعم، هذا الفقير النحيلَ الوحيدَ الحزين، بفيض هائل من الموهبة والقدرة المذهلة على تشكيل اللون وتخليق مساحات النور والظلال والخفوت بين محاق القمر وهَلّته، وإشراق الشمس وكسوفها! كأنما يحمل بين يديه شمسًا وهاجة وقمرًا، يتحكم بأزرار سحريّة فى مقدار إنارتهما وإعتامهما فيغدو الضوءُ وهجًا برّاقًا حينًا، أو شمعةً واهنةً خاسفةً، حينًا آخر. ومع كل تلك الموهبة، كان حزينًا. وفقيرًا. طوال حياته لم يبع إلا لوحة واحدة هى «الكرم الأحمر» مقابل ٤٠٠ فرانك سويسرى، وهو رقم زهيد إذا ما قورن بأسعار لوحاته اليوم التى تناهزُ ٢٠٠ مليون دولار. كان يأكل الألوان إن قرصه الجوعُ فى ليالى العَوز، ويحرقُ لوحاته ليستدفئ بها فى قرس الشتاء. لكنه لحسن الحظ ترك لنا ٢٠٠٠ لوحة مازالت تُزيّن جدران هذا العالم الثرى بمبدعيه وعباقرته. اختار «ڤان جوخ» أن يهرب من وحدته، برصاصة فى الصدر وهو فى السابعة والثلاثين من عمره. هكذا فرَّ من عالم لم يعرف قدرَه وتركه لعزلته.
أما «توم هانكس» فعالج وحدتَه بأسلوب ابتكارىّ. قُدِّر لرجلٍ أن ينجو من طائرة سقطت فى الأطلسىّ. صارعَ الأمواجَ حتى وصل جزيرةً نائية. وبعد أيام من انتظار الذى لا يأتى، شرعَ فى التكيّف مع حياته الجديدة. بدأ بإشعال النار، أصل الحياة. أخفقت محاولاتٌ، وتمزّقت يداه جراء صكِّ حجر بحجر. وفى فورة غضب، أمسك كُرَةَ قدم، من مخلفات الطائرة، وألقاها بعيدًا صارخًا من الألم واليأس. انطبعَ كفُّه الدامى على سطح الكرة البيضاء، فغدت أشبه بوجه أحد الهنود الحُمر. أخذ الكُرة واحتضنها وأطلق عليها اسم: «وِلْسُن»، الذى غدا رفيقه لأربع سنوات، مدة بقائه فى الجزيرة قبل انتشاله وعودته لعالمنا الصاخب. أحبَّ الرجلُ «ولسن» كما لم يحبّ أحدٌ أحدًا. إذْ وجدَ أُذنا تُصغى إلى كلامه، وعينًا ترقبُ صمتَه، وقلبًا يحملُ معه الوحدةَ والإقصاءَ. خبرَ معه الجوعَ والعطشَ والخوفَ والظلامَ والبردَ. والأهمُّ من كل ذلك، اقتسم معه ذاك الشعورَ المُرَّ بأنه «زائدٌ عن الحاجة»، ولا أحد يفتقده. كان «هانكس» يحاورُ «ولسن»، ويستمعُ إلى صمته. يُغاضبه، يُصالحه، يلاعبه، يُطبّبه ويعيد رسمَ ملامح وجهه حين يتقشّر الدمُ من سطحه. حتى إذا لاحت، فى آخر الفيلم، سفينةٌ بعيدة فى عمق الموج المتلاطم، يحملُ الرجلُ صديقَه «الكُرَه» ويسبحُ به أميالا نحو السفينة، لكن الموجَ القاسى أطاح بالكرة بعيدًا. أنّى للموج بمعرفة مشاعر البشر! صرخَ هانكس، وبكى صديقَه «الكرةَ» وهو يتباعد عنه، كما يبكى صديقٌ صديقَه.
كثيرٌ من الفنانين يختارون الوحدةَ بملء إرادتهم، إذْ يشعرون بأنهم لا ينتمون إلى هذا العالم. يطمحون فى عالم مثالىّ غير موجود. تكلم عنهم «كولن ولسن» فى كتاب «اللامنتمى» وحلل طبيعة الشخصية النافرة عن السياقِ المجتمعىّ متخذا نماذجَ من مشاهيرَ «لامنتمين» مثل: ديستوفسكى، فوكنر، كافكا، سارتر، نيتشه، ڤان جوخ، برنارد شو، وآخرين من أفذاذ هذا الكوكب ومجانينه. أليسوا متروكين جانبًا؟ نفروا من عالم لم يتكيفوا معه، لأن شروطَه «الصعبة» لا تتفقُ مع شروطهم «الصعبة»، وانعكس هذا «اللاانتماء» فى أعمالهم الفنية والفكرية والإبداعية.
المهم، أن الإنسانَ، أىّ إنسانٍ، حتى ذلك الراغب فى الوحدة، لابد أولا أن يجد الناسَ من حوله، ثم بعدئذ، ينأى عنهم ويتوحّد بذاته. لابد من وجود الناس، لكى نشعر بوحدتنا بينهم. وإلا غدا الأمرُ حفرَ فراغٍ فى فراغ، أو صبَّ ماءٍ فوق ماء.
«الدينُ لله، والوطن لمن يحبُّ الوطن».
twitter:@fatimaNaoot.