مفيد فوزى …. يكتب أسئلة
(1)
لا أملك السيطرة على ما يطوف برأسى من أفكار، فإنها أفكار تزورنى من حين لآخر، أفكار ترتبط بالحياة والموت، وعندما كان أنيس منصور بيننا، كنت أهمس بهذه الأفكار، وللدقة أسئلة عصية على الفهم!. فقط أنيس منصور لأنه كان قادراً على استيعاب حالات الشك واليقين التى تنتابنى، لم يكن يسخر من أى تساؤل أو سؤال، كان يعرف عنى هذه الخاصية، «السؤال الصعب» يرقد فى عقلى ثم أفرج عنه عندما أقابل عقلاً يملك فهما بلا ضفاف، وفى الزمانات القديمة كان د. سيد عويس يصغى لأسئلتى، وأحيانا كان عقل د.أحمد خليفة يستوعب ما أقول. حتى فى لحظات الصفاء والوحدة يصر المخ على طرح أسئلة، بعضها قابل للنشر وربما جلب لى بعض المشاكل، لكن الأسئلة التى تحيرنى معظمها شديد الصلة بالوجدان!.
هناك أسئلة أطرحها وأكتفى بسردها لنفسى وأمضغها!. اختليت بالبابا تواضروس عبر حوار تليفزيونى وطرحت عليه أسئلة لم تذع للناس وكان يكتفى بقوله «ربما لا تدرك عقولنا ما تسأل عنه وهنا إدراك الوجدان»، حين يكون الوجدان هو ممر الفهم لقضايا تفرض نفسها بالسؤال ألوذ بالصمت ذلك أنى لا أقترب من الثوابت التى ينبغى أن تظل «ثوابت».
كان أنيس منصور عقلاً متسائلاً ولعل هذا سر إعجابى به، صحيح لم أقترب بما فيه الكفاية من د. مراد وهبة، هذا العقل الصاحى اليقظ رغم العمر، ولذلك طرحت عليه على صفحات «المصرى اليوم» سؤالاً عن أحلامنا والإرادة الإنسانية ولعبة القدر وتفضل وأجاب عن السؤال على صفحات الأهرام مما أسعدنى حقاً. أحياناً أشعر أننى أجلب المتاعب لنفسى، فأنا دوماً أشقى بعقل يسأل حتى صار السؤال مرضى وعافيتى!، لا أفكر أن بعض هذه التساؤلات سياسية، ولا مانع – كما علمنى أحمد بهاء الدين – أن أربط أخباراً ببعضها لأستنبط الإجابة ولا تنجح محاولاتى، ولما كنت لا أملك المعلومة المتوغلة فى الكواليس مثل محمد حسنين هيكل تظل الأسئلة السياسية بلا إجابة، لكنى أحاول أن أبحث عن الإجابة ممن يقتربون من صناع القرار.
(2)
لكنى والحق يقال لا تسبب لى أسئلة السياسة والشأن العام حيرة ذهنية مثلما تشقينى الأسئلة الوجدانية حول الموت وما بعد الموت، وقدرات العقل البشرى على الخلق وأصل الحياة وسر الديمومة، والشفاعة فى الدين، وصورة الله عند شعوب تفوقت اقتصادياً ولا تعبده، وثنائية الحياة الرجل والمرأة والليل والنهار والمقدر والمكتوب، وحقيقة برهان الحس الشعبى «المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين» وكنه الأحلام وتأثير الأبراج على تصرفاتنا إذا خرجت من المدار والأرواح التى تعيش معنا ولا ندرى، ثم أفيق من هذا الخيال على ابن رشد وهو ينادى باستخدام العقل، وحين تطوف بالعقل أسئلة صعبة مختبئة فى الوجدان، فالواجب يفرض أن أتخلى فوراً عن مخالبى فى طرح السؤال وما علىَّ إلا التسليم بالثوابت، فلا اجتهاد ولا تأويل، وهذا يهدينى إلى شاطئ الراحة لكنها راحة مزيفة، فالعقل الإنسانى الذى وثب وثبات هائلة فى فضاء الاختراعات والحضارة لا يقف مكتوف اليدين أمام قضايا معاصرة هى أيضاً فصل من فصول مسرحية الحياة، ونحن كممثلين نؤدى أدوارنا كما يفرضها سيناريو إلهى، نحن فى الواقع «مسيرون» رغم الظن أننا «مخيرون» وتلك مسألة لم نصل فيها للبر.
أحياناً كثيرة، ألجأ إلى تبرير تصرفات الآخرين لأنى أعلم أنه «مُسيَّر» وربما لديه قدر ضئيل من حرية الاختيار، وأحياناً أفعل شيئاً يثير دهشتى، أتعمد أن أكون مجرد متفرج يطل على عالم البشر من مدرجات الحياة، ولا أقيس سلوكيات الناس بمعايير معينة، إنها وسيلة تريحنى قليلاً لأنى لا أستطيع تصور نفسى منفصلاً عن الواقع ولست مشتبكاً معه ومتفاعلا بكل كيانى.
(3)
أنا لم أشتغل بالفلسفة ولا أسأل من باب التفلسف ولا أعتبر أسئلتى مطلية بالفلسفة، وأستريح لوصف أنيس منصور لى: «رزقت عقلاً متسائلاً وظفته فى الصحافة فأعطاك المحاور على شاشة»، لكنى أجزم أن عقل أنيس منصور معجون بالفلسفة وربما أعطته الفلسفة ككاتب هذا البراح الإنسانى وجعلت لعبارته بطعم الفلسفة مذاقاً خاصاً، ومنذ أسابيع قليلة أتاح لى الأستاذ أحمد موسى- على صدى البلد- أطول مداخلة مع د. مراد وهبة الذى أعتز بزمالتى له فى «مجلس التنوير» بجامعة القاهرة الذى دعانا إليه د. محمد عثمان الخشت، رئيس الجامعة الجديد التنويرى، صحيح أن حواراتنا تتناول الشأن العام باستفاضة وعمق ليس مكانهما الإعلام ولكنها تذهب بعيداً فى كنه الأشياء دون تغريب، على أنى أفهم محدودية العقل البشرى ومحدودية الحواس لحكمة يريدها الخالق وربما كما قال لى أنيس منصور «خد حذرك يا صديقى، إن السؤال الفلسفى يلتقى مع الإلحاد فى بعض الجوانب»!، لكن السؤال عندى ينبع من فضول بالسليقة ويدلف إلى الأشياء الثقافية المركبة قبل المعتقدات والأخلاق والفن والعادات وقد تمتد لأصل الوجود ومن أوجده.
إن أغنية محمد عبدالوهاب التى كان مفترضاً أن يشدو بها عبدالحليم حافظ «جايين الدنيا ما نعرف ليه، ولا رايحين فين، ولا عايزين إيه، مشاوير مرسومة لخطاوينا نمشيها فى غربة ليالينا».
(4)
الموسيقار غنى لإيليا أبوماضى تساؤلاً فلسفياً:
جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت
ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمشيت
وسأسبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت، كيف أبصرت طريقى.
أنا لا أذكر شيئاً عن حياتى الماضية، هل أنا حر طليق أم أسير فى قيود؟!.
هذه التساؤلات تحاول أن تضبط رحلة الإنسان على الأرض، ورغم السؤال، فقد ظل بلا إجابة.
عبدالحليم حافظ تساءل غناءً «مين أنا، ليه أنا؟ اختارت الدنيا الميعاد واختاروا اسمى فى الميلاد، مين أنا؟!».
لقد تسربت الأسئلة الصعبة إلى الغناء وغلفتها الموسيقى لتمس شغاف القلب.
(5)
أسأل عن الوجود وقلبى عامر بالإيمان. أسأل عن المصير وأقف أمام هيكل كنيسة أصلى وغيرى يسجد فى المسجد، أسأل من أوجد هذا الوجود وإلى أين، ويملأ روحى إيمان أن الله ضابط الكل، أحترم الثوابت وجدانياً ولا أملك أن أمنع نفسى من سؤال يثقب العتمة ويضىء حقيقة ويضيف معرفة، فالإنسان دون حقائق ومعارف هو عارٍ تضربه العاصفة بلا هوادة!!. هذا زمان يحترم القوة، والقوة هى المعرفة.