تساءلت هل الالتزام الشديد فى الحياة يحجب المتعة؟ طرحت السؤال من منطلق مكالمة تليفونية طالت كثيراً، قالت: أعتبر نفسى ملتزمة جداً وربما بكثافة ولا أجد متعة! أنا من يطلق عليهم «contented، but not happy» وترجمتها الحرفية: «أنا راضى لكنى لست سعيداً!» قلت أليس الرضا فى حد ذاته سعادة؟ قالت: لا، إن مفهومى للسعادة مختلف، إنه الشعور بأنك تحلق كطائر وأنك تشعر بأقل هموم وصفر تعاسة! قلت: ما الالتزام الشديد؟ قالت نحو بيتى، نحو زوجى، نحو أولادى، نحو أسرتى، نحو صداقاتى ونحو عملى. أفعل المطلوب وأكثر وأسد الثغرات ولا أدعى الكمال. قلت: هل هذا الالتزام عن طيب خاطر أم أنكِ مضطرة له؟
قالت: فى الأمر جانب كبير عن طيب خاطر وبإرادتى وعقلى وهناك التزام نحو المجتمع يفرضه انتماؤك لهذا المجتمع واشتباكك معه وقد يستنفد الوقت والصبر.
وفى ظنى أن هذا الالتزام مرهق، قالت: دعنا نتكلم بصراحة وقد اخترت الحديث معك بسبب سنوات النضج التى تحملها على ظهرك على حد تعبيرك. إن كل التزام فى الحياة مرهق. لأنى حين ألتزم معناه أنى أسير فوق قضبان من التقاليد أو الطقوس أو الأعراف أو القواعد أو الثوابت، فأين المتعة فى سجن نفسى بإرادتى احتراماً لذاتى واحتراماً للمجتمع. قلت: إن الالتزام من قواعد النجاح والشخص غير الملتزم هو شخص ضائع ليس له فنار يهديه! ونحن نلتزم فى العمل والحياة بإرادتنا وبرغبة ذاتية ليس فيها إكراه: وإذا لاح فى هذا الالتزام شبهة خوف أو تهديد أو فهم خاطئ من السلطات، صار الالتزام ثقباً ضيقاً وسجناً كبيراً أفتقد فيه الحرية وهى أيضاً من أعظم المتع. فالمتعة ليس أن تحلق كطائر بل أن تشعر بذاتك وقيمتك وكيانك كعضو عامل فى مجتمع ويعاملك المجتمع بالمثل بقدر من الاحترام. قالت: المتعة هى شعور الإنسان بذاته وبحريته. قلت: هل يحرمك الالتزام من شعورك بذاتك وبحريتك؟ قالت: فى الحقيقة الالتزام يضغط على الإنسان وربما يتنازل قليلاً عن حريته وبالتالى لا مكان للمتعة أنا أبحث عن التزام لا يحرمنى من شىء من المتعة.
قلت: أليس الالتزام هو إنجازا يرضيكِ ويكافئك بمتعة؟ أليس الإنجاز متعة فى حد ذاته؟ قالت: لماذا تربط بين الإنجاز والمتعة بهذه البساطة؟ قلت: ليس شرطاً بالمناسبة!
ثم قالت: إن فى الالتزام بعض المجاملات التى تضطر لها اضطراراً وربما ليست على هواى وقرأت لك مرة كلاماً على لسان نجيب محفوظ يقول: «عشرون مجاملة يومياً غير مريحة ولكنها تدخل تحت بند الالتزامات، ليتها تصير خمسة فقط» ومعنى هذا أن بعض الالتزام مزعج واضطرارى فأين المتعة؟ قلت: أصاب نجيب محفوظ حين تمنى أن ينقص عدد المجاملات إلى خمسة!
قالت: لأن هناك مجاملة تتدخل إرادتك فيها ومجاملات تلزمك الحياة بفعلها «غصبا عنك». إنى فى سبيل أن تمضى الحياة أسد ثقوباً و«أعمل بهلوان» مما يستنفد الطاقة والصحة! قلت: ليست الحياة نزهة خلوية ساعة عصارى، فالحياة عمل وكفاح واشتباك!
قالت: أعرف هذا وأكثر ولكنى أحاول أن أرضى كل الأطراف فى حياتى، الأسرة والعمل والصداقات وهذا أيضاً يحجب المتعة.
قلت: لا يوجد إنسان بلا جراب من المشقة ولكن التوازنات مهمة. فالسلام الداخلى متعة غير منظورة والسلامة متعة والصحة متعة والقليل من الألم متعة. وهناك متع كبيرة تمنحك نشوة وانتشاء. بلزاك الفيلسوف يجدها فى المعرفة ود. مجدى يعقوب يراها فى «الاكتشاف» وابن خلدون يجدها فى «التراث» وبرتراند راسل يجدها فى الفلسفة ومحمد عبدالوهاب يعثر عليها فى «العفأة» وفيروز تجدها فى الترتيلة ومحمد صلاح فى الهدف وصراخ الجماهير. واستطردت: المتعة أصناف: روحية ومعنوية ومادية و.. حسية. والالتزام- فى تفسير المعجم هو الارتباط بالقواعد والثوابت- وهو أدبى ومعنوى وعسكرى ومادى.
قالت: إن أجمل الالتزامات هو ما يربطك به علاقة حب وأظن أن سوء الإدارة فى بلدنا ناتج عن التزامات مفروضة وليست نابعة من الملتزم فأنا أعرف أنك فى التزامك بالصحافة عنصر الحب رغم مآخذك عليها وأنها صحافة القرود، ولكنك تكتب لأنك «أدمنت الحرف والكلمة» وعندما كنت تقدم فى التليفزيون برامجك، كنت مهموماً بقضايا البلد عن التزام نابع من داخلك يجلب لك المتعة. قلت لمحاورتى الذكية: أنا أجد المتعة الحقيقية فى «الستر». قاطعتنى: الستر؟! نعم، إنه ستر صحى ومادى واجتماعى وعائلى فى زمن التواصل الواطى وتسريب الفيديوهات! إن أجمل دعوة فى الحس الشعبى «روح إلهى يسترك». أليست هذه متعة أن تعيش مستوراً ولو كنت فقيراً. قالت: لقد ابتعدنا عن الالتزام الذى أعانى من أكثره وهو بغيض والقليل منه محمود، وأنا هنا أشكو من قلة المتعة وسأكون أكثر صراحة الالتزام الشديد «حاصر» ضحكتى، وجعلها شحيحة! قلت: الأمر يحتاج بعض الترتيب والأولويات، فقط أريد أن تدركى أن متعة الصحة هى الموتور الذى تستخدمينه فى التزاماتك الحياتية ولولا هذه المتعة لما كان الكفاح فى حياتنا. إن تحقيق أمل ما يجلب المتعة وهو أيضاً التزام، ودعينى أسألك كم ملتزما حولك؟ قالت: أحياناً أشعر أنى مريضة عندما أقلق بجنون على ابنى! قلت: هذا التزام مشروع، عيبه أن فيه كما من القلق زائدا عن الحد الآمن والمقبول. قالت: نحن لسنا طبعة واحدة هناك من يعذبه القلق وهناك من لا يهتم عملاً بما قاله الأبنودى يوماً «بينا ومن غيرنا هيتربوا هيتربوا».
قلت لها: ليت التزامك هذا يطال معظم المصريين، فنحن فى أشد الحاجة للالتزام «القومى» الذى يصنع الأمم. قالت: أريد أن أضحك، أريد أن أنط الحبل، أريد أن أعود طفلة، أريد «تشحيم» ماكينات الالتزام ببعض المتعة. قلت: لماذا تفصلين بين الالتزام والمتعة؟ قالت: لأن الالتزام هو منتهى الجدية والمتعة شىء آخر- قلت: عندما أنجز بالتزام ما أقوم به، أشعر بمتعة.. قاطعتنى: ما تقوم به تحبه وترغبه ولست مرغماً عليه. هل أذكرك ببقية كلام نجيب محفوظ؟ يقول «بعض هذه الالتزامات لبشر لا يستحقون ولكن لتمضى الحياة» أنا أعيش هذه الأنماط. قلت: سمعتك تقولين أنا لا ألبى أى دعوة للخروج للمتعة. فهل ما سمعته صحيح؟ قالت: نعم، مثلما تقول «بيتى، قلعتى» وتقول: أحيا فى جزيرة أستدعى لها من أشاء ولا أحد يدق على بابى باسم العشم». قلت: «أنا متحفظ للشارع ربما يطالنى بعض رذاذه!» قالت: أنا مثلك عندى هذا الهاجس فهل أنا معقدة؟ قلت: لا، أنت تختارين موقع قدمك ومع من.
قالت: مع أنى ملتزمة وأفتح قوساً وأقفله. أنا أميل لعدد قليل من أصدقاء أثق فيهم ولا أميل إلى بهرجة الشلل، صرت أختار من أجلس بجواره وتستطيع أن تقول بعبارة أكثر دقة صرت أنتخب جارى! قلت: هل علمك الالتزام هذه القيم؟ قالت: نعم إن الوجه الإيجابى للالتزام أنه جعلنى أميز وأفرز البشر حولى.
سألتها: كيف كان هذا؟ قالت: التجربة أم المعلمين ومثلما تقول لا شوق دون وطن، لابد أن تصل لهذه النتيجة لا دروس عمر دون تجارب! أعجبنى المنطق والتشبيهات. نحن فى الحوار نجد «متعة المتع» حين نتقاسمه مع من نحب.