مصطفى كامل سيف الدين …. يكتب الغيرة والحب
بقلم الكاتب الصحفى مصطفى كامل سيف الدين رئيس مجلس الإدارة والتحرير
من منا لم يشعر بالغيرة يوما ما، سواء في طفولته أو شيبته، وعلى مدى سنين عمره، ولولا غيرة اليابانيين والألمان من التقدم الأوروبي والأمريكي عنهم بعد الحرب العالمية الثانية لما تقدموا وابتكروا وأبدعوا ليصبحوا من القوة العظمى اقتصاديا وماليا وصناعيا.
إلا أننا نتحدث عموما عن مجمل أنواع الغيرة، فهناك غيرة العشاق، حبيبا وحبيبة، زوجا وزوجة، وهذا أصعب أنواع الغيرة على ما اعتقد، فالغيرة هنا هي عنوان حب الزوج لزوجته أو العكس، الحبيب لحبيبته أو العكس، فمثلا عندما يعشق الرجل يريد أن تكون حبيبته ملكه وحده، فيغار عليها من كل شيء ولا يريد أن يشاهد غيرها، حتى إنه لا يبتسم سوى لحبيبته، فهي تسكن فؤاده، ونرى الأم أحيانا تغار من زوجة ابنها بسبب شدة ولعه بها، فتبدأ المشاكل الأسرية، وربما تغار الأخت أيضا من حب شقيقها لحبيبته، فتصاب بالغيرة عليه، لتبدأ المناوشات، خاصة إذا كان منزل الزوجية في بيت العائلة الكبير.
نعود الى غيرة المحبين، فهي تشعر الاخر بالأهمية وقدر المحبة، وفيها كتبت الكثير من القصائد والأشعار، لأنها ترضي غرور المحب، رجلا أو امرأة، و تجعل المحب يشعر بالسعادة، لأن غيرة حبيبته عليه تعني له أنها تحبه كثيرا أو يحبها كثيرا، وأنها كل حياته أو أنه كل حياتها. فالمحب يستمتع بهذه الغيرة، ولكنها قد تنقلب الى غم ومشكلة كبيرة إذا زادت عن الحد وأصبحت مرضية، لأن الغيرة هنا قد تقتل الحب، وتكون غيرة الرجل منفرة للمرأة وتعتبرها تعديا على حريتها. وكذلك غيرة المرأة عندما تحاول احكام الخناق على زوجها أو حبيبها. والمطلوب هنا، أن تكون الغيرة بقدر محدود ولا غلو أو تطرف فيها، حتى لا يفشل الحب أو الزواج، خاصة ونحن نعلم أن الغيرة شيء فطري من الله عز وجل على نحو ما سنبين لاحقا.
ولعلنا ونحن نتحدث عن الغيرة، نستدعي مباشرة قصة قابيل وهابيل، فالأول رضخ لرغبات الشيطان وقتل أخيه هابيل بعد أن تقبل الله قربانه، فقد اختار أحسن ما عنده وهو خروف سمين وقدمه قربانا للرب وكان قلبه صافيا نظيفا، في حين قدم قابيل فاكهة رديئة فاسدة وهو حانق ولم تتقبل منه. وقال قابيل لأبيه أدم مغتاظا وغاضبا: «انك دعوت لهابيل فتقبل الله هديته ولم تدع لي».. فرد عليه أدم: «بل تقبل الله منه لأنه قدم أطيب ما عنده، وقلب صاف.. أما أنت فقدمت الى الله أردأ ما عندك وقلبك رديء، إن الله طيب لا يحب إلا الطيب».. بقية القصة معروفة، حينما تمكنت الغيرة من قلب قابيل بعد أو وسوس له الشيطان كثيرا، فقتل أخاه هابيل بالحجر ليجري أول دم على الأرض.. ليفيق قابيل الى نفسه، فلما رأى دم اخيه شعر بندم، وعرف أنه عمل عملا فظيعا. فقد خسر كل شيء، وشعر بالخوف والحزن والندم، وخسر الراحة والأمن والاطمئنان، وعندما كانت الريح تهب يتخيل أنها تصرخ به: «قاتل، قاتل، قاتل»، وعندما تزأر الوحوش في الغابة يكاد يسمعها تناديه: «يا قاتل». لم يعرف قابيل الراحة بسبب الغيرة التي دفعته الى قتل أخيه، وعاش مذعورا مرعوبا وخائفا طوال عمره.. انها الغيرة القاتلة.
وأمامنا قصة يوسف، فالنبي يعقوب أدرك غيرة أولاده من ابنيه يوسف وبنيامين لتعلق يعقوب بهما كثيرا وشغفه بأصغر أولاده وتمسكه بهما وعدم استطاعته فراقهما ولو للحظة، فاتفقوا على قتله، ولكن واحدا منم قال: «لا تقتلوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين».. فصاح أحدهم «هذا هو الرأي».. واتفقوا على أن يلقوا يوسف في الجب ليتخلصوا منه، ويخلو لهم وجه أبيهم. ذهب الأولاد الى أبيهم، فوجدوه يحتضن يوسف ويلاعبه، فقال له أحدهم: «يا أبانا ما لك لا تدع يوسف يذهب معنا ليلعب؟» فقال يعقوب: «لا أطيق أن أفارقه ساعة».. فقال اخر: «أرسله معنا غدا يلعب ويتمتع». فقال لهم أبوهم: «إني يحزنني أن تذهبوا به».
واصل الأولاد الضغط على أبيهم الى أن رضخ لرغبتهم في النهاية حتى إنه تنبأ لمكرهم وقال لهم: «أخاف أن تشتغلوا في لعبكم وتتركوه، فيأتي الذئب فيأكله».. فردوا عليه: «كيف يأكله الذئب ونحن كثيرون.. لا تخش عليه شيئا، دع يوسف يخرج معنا يفرح ويلعب، لماذا لا تأمننا على يوسف ونحن نحبه، ونحب أن يذهب معنا». استمروا يرجون أباهم حتى قبل رجاءهم، وأرسل يوسف معهم، فخرجوا من عنده مسرورين.. وبقية القصة معروفة، ولكن نتعلم منها أن محبة الأب والأم يجب أن تكون واحدة ومتساوية لكل الأبناء تجنبا لإثارة الغيرة بينهم.
وكما ضربنا الغيرة الايجابية باليابان والمانيا، فالقدر المعقول منها يشكل للمرء أو المجموعة أو الدولة دفعة قوية للانجاز على نحو أفضل، إلا أنها قد تسبب صراعات نفسية مميتة مثلما كان الحال في حالة قابيل وهابيل وأخوة يوسف، فهي تشكل هنا خطرا على التوافق الاجتماعي. أما إذا استمرت كشعور إنساني طبيعي بشرط عدم عقد مقارنات بين الفرد وآخرين، فهي تفيد الإنسان، على ألا تتغلب عليه حتى لا تفسد حياته وتحولها الى جحيم ومكائد للقضاء على الاخرين.
وتصل الغيرة أحيانا الى أن يغار الرجل على امرأة تحبه حتى لو لم يكن يحبها، وتغار المرأة على رجل يحبها حتى لو لم تكن تحبه، لماذا؟ لأن أجمل أنواع الغيرة، هي غيرة الحب، وأسوأ أنواع الغيرة ، هي غيرة الحقد. والأمر الأكيد، أننا نغير على الذين نحبهم لأننا نحبهم، ونغير على الذين يحبوننا لأننا نحب أنفسنا، فلا يجب أن نعبر عن حبنا لهم بالغيرة، خاصة وأن الحب الكبير يولد الغيرة، أما الغيرة إذا كانت شديدة تقتل الحب.. قد يعتقد البعض أن الغيرة هي عنوان الحب بين الرجل والمرأة، فهي عندما تعشقه تريد أن تمتلكه، فتغار عليه ولا تريد لغيرها أن يراه و لا يبتسم إلا لها و لا يكون بداخل قلبه سواها. ونراها تغار أحيانا حتى من أمه و أخته. وفي هذه الحالة كما أسلفنا فهي ترضي غروره وتجعله يشعر بالسعادة، لأن الغيرة تعني له أنها تحبه كثيرا وأنه كل حياتها فيستمتع بهذه الغيرة، و منهم من يشتكي من تلك الغيرة، خشية أن تقتل الحب إذا زادت عن حدها من أي من الطرفين..
والآن.. هل يحق لنا أن نغير على أحبائنا، أم نمضي هكذا، ولكن وقتها لن نعيش الحب، فالحب الحقيقي غيرة وسهد وشعر وقصائد.