كيف ردّتِ الدولةُ المصرية على الإرهاب؟ الحقُّ أن الردَّ جاءَ حادًّا، حاسمًا، وموجعًا. سيذكرُ التاريخُ طويلا هذه الساعات الاستثنائية من صبيحة يوم السبت ٢٩ أبريل، ٢٠١٧. اليوم الذى كان بمثابة ردّ مصر الأبهر على كل مأفون تعس، فجّر كنيسةً على أرض مصر الطيبة، التى تجاورت على أرضها الكنائس والمساجد على مدى العصور، تصطفُّ حولها قلوبُ المصريين الذين لا تزيدهم الفتنُ والمحنُ إلا إيمانًا بأن نجاتنا فى وحدتنا.
أكتبُ مسودةَ هذا المقال، على المساحة البيضاء من عَلم مصر الصغير الذى أهدته لنا بناتُ الكشافة المليحات لحظة دخولنا (استاد ٣٠ يونيو) بالتجمع الخامس. وحين يمتلئُ قلبُ مصرَ الأبيضُ بالكلام، سأقلبُ العَلم، وأكملُ الكتابة على المساحة الصفراء فى علم دولة الفاتيكان. أجلسُ فى مقصورة كبار الزوار تحت وهج شمس مصر الساطعة، أتأمل وجه هذا الراهب الطيب فى دثاره البيض، وهيبته التى ازدادت سموًّا حين تواضع وانحنى، قبل شهر، ليغسل أقدام فقراء اللاجئين من العرب الذين طردتهم بلادهم، محاكيًا السيد المسيح الذى انحنى وغسل أقدام تلاميذه وهو يعلّمهم درس التواضع التاريخى الأشهر. أتأملُ ذلك الراهب، البابا فرنسيس، الذى تفصلنى عنه عدة أمتار، وأحار فى عينيه اللتين تُشرقان بالبِشر والحب لكل البشر دون تمييز فى العقيدة ولا العرق ولا اللون ولا الظرف الاجتماعى أو السياسى. تُرى ما سرّ الفرح فى عينيه، رغم أحزان العالم؟ تذكّرتُ عينى الأم تريزا اللتين كانتا تنثران الفرح من حولهما، حتى وهى تحتضن أطفالَ الجزام ويتامى الفقراء. ولما سُئلت عن سر ذلك الفرح، قالت: «لأننى أمسحُ دموعًا كثيرة». صدقت القديسةُ الطيبة. إن أردتَ أن يسكن الفرحُ قلبَك، امسحْ أحزانَ الناس وانثر فى قلوبهم الفرح والسلام. وهذا بالضبط ما جاء من أجله ذلك الراهب.
البابا فرنسيس الأول، بابا الفاتيكان، فى يومه الثانى بالقاهرة. جاء إلى هذه الأرض الشاسعة، ليرفع صلاته أمام ٢٥ ألف مصريّ فى مدرجات الاستاد ومئات الملايين أمام الشاشات فى كل بقاع الأرض. صلاةٌ تاريخيةٌ على أرض مصر، من أجل شعب مصر، ومن أجل كل بقاع الأرض المأزومة بالإرهاب. جميعُنا، مسلمين ومسيحيين، مصريين وغير مصريين، ردّدنا خلفه آياتِ السلام ورفعنا لله نجوانا. جميعنا رفع يديه وقلبه للإله الواحد ربّ هذا الكون العظيم الذى كانت مشيئته أن نتنوّع حتى نتكامل، وأن نتباين حتى نتحابّ ونثرى ونسمو.
خلال تلك الصلاة التاريخية التى أقامها البابا الكاثوليكى على أرض مصر، قدّم البابا للعالم ولشعب مصر، رسائل عديدة. كأنما قال دون كلمات: يا شعب مصر العظيم، جئتُ إليكم حاملاً إيمانى بكم كشعب عريق واعٍ، قرر أن يتمسك بوحدته، لافظًا سهامَ الفُرقة التى تضرب خاصرته كل يوم، من أقواس أعداء الحياة. جئتُ إليكم مراهنًا على تلك الأرض الطيبة التى صنعت السلام منذ فجر الضمير الإنسانى، ثم قدّمته للعالم فى صورة أولى حضارات الأرض. جئتُ إليكم غير هيّاب مما سماه المحللون: «الإرهاب». فمثلى لا يهاب إرهاب وحوش الإنس، بل أدعو لهم بالغفران والرحمة مشفقًا عليهم من ضلال سعيهم وخروجهم عن مظلة الإنسانية. فالإنسان وُجِد على هذه الأرض ليصنع السلام ويُشيعه. قصدتُ أرض مصر عارفًا أن السلامَ يسكنها، تمامًا كما قصدتْ مصرَكم قبل ألفى عام، أمى وأمُّكم وأمُّ السلام، البتول الطاهرة، مريم العذراء، حاملةً وليدها، السيد المسيح، طفلًا طاهرًا، يرافقهما القديس يوسف. ولّت العائلةُ المقدسة ظهرها لأرض الخوف والإرهاب التى يحكمها هيرودس فى فلسطين، وقطعت سيرًا ألف ميل صوب أرض الحضارة والسلام والبركة، مصر. فكانت زهور البيلسان تُشقشقُ تحت قدمى مريم، وتتفجّر ينابيع الخير أينما حلّت، وأينما ارتحلت من شمال شرق مصر عند رفح، حتى قلبها فى أسيوط، ثم عادوا من حيث أتوا بعدما قضوا فى مصر سنين عددًا، يظلّلهم أمانُ الله وحبُّ شعبكم الكريم. فكيف أخاف على نفسى وما خافت أمى على وليدها، عليهما السلام؟! جئتُ إليكم دون درع واق يذود عنى رصاص الإرهاب الذى وصموا به أرضكم، لأننى لم أصدقهم. فشعبٌ مثل شعبكم بنى تلك الحضارة العظيمة منذ فجر التاريخ الأول، مستحيلٌ أن يسمح ليد الإرهاب السوداء أن تحصد ما زرع منذ آلاف السنين. معكم، والآن، سنطلق صيحة السلام لكل العالم من أرض السلام.
لم يقل البابا فرنسيس ما سبق بالكلمات. تلك الكلمات هى الصورة القلمية التى رسمها قلمى لتلك الزيارة التاريخية التى قدّمها بابا الفاتيكان فى لحظة صعبة من لحظات مصر، كأنما ليقول للعالم: لا تصدقوا الواشين، فلا إرهاب هنا فى تلك الأرض المباركة، التى جئت إليها آمنًا، وخرجتُ منها بعدما أشاعت السلامَ فى نفسى وقد جئتُ لأشيعَ السلام فى ربوعها.
أنظرُ حولى فى ستاد ٣٠ يونيو الشاسع، ثم أهتف لمن حولى: تدرون كيف ردّت مصرُ الجبارة على الإرهابيين؟ قالت: «أنا مصرُ العظيمةُ صاحبة العشرين ألف عام من السعى الحضارى، والسبعة آلاف عام من الحضارة المدونة، قررتُ أن أردَّ على مفجرى الكنائس فى أرضى، بتشييد أضخم كنيسة فى التاريخ هنا على أرض هذا الاستاد. لكنها كنيسة من نوع فريد. كنيسة مفتوحة سقفُها هو السماء ومساحتها بطول حضارة مصر وعرضها. كنيسة سماوية للمصريين كافة، مسلمين ومسيحيين. خرجوا من دورهم مع خيوط الفجر الأولى متوجهين صوب ساحة السلام، رافعين أكفّهم لله ربّ السلام، مُبرئين ذمتَّهم من خصوم السلام. واسلمى يا مصرُ.
twitter:@fatimaNaoot