بوابة وراديو الشباب نيوز .. ورحلة قطار قبل زيادة الأسعار
مقاعد جامدة.. ونوافذ لا تقى بردا.. وحمامات تزكم رائحتها الأنوف.. وأقفاص طيور.. و«حلل» وأوانى مليئة بخيرات الله داخل عربة قطار مظلم، باهت، لم يبق من لونه الأصفر إلا كلمة «المطور» تلك الصفة التى ليس له منها نصيب. فى هذا الشتاء القارس، وفى ليلة مظلمة، شاركت «بوابة وراديو الشباب نيوز» ركاب قطار «القاهرة-المنصورة» رحلة مجهولة عبر 3 ساعات من العذاب، والازدحام، وحكايات سمر ليلية، فقط لتمضية الوقت الذى مر كحمل ثقيل مثل حقائبهم التى أحنت ظهورهم، وضاقت بها طرقات قطار لا علامة على وجوده سوى صوت احتكاك عجلاته بالقضبان، وذلك قبل تطبيق قرارات زيادة الأسعار على التذاكر المتوقعة خلال الفترة المقبلة.. العشوائية هنا هى سيدة المكان، «الشباك يبيع التذاكر أغلى من سعرها.. بنتعامل مع الكمسرى أحسن جوا القطر».. هكذا علق أحد الركاب، بينما كان أحد الفنيين يحاول غلق الباب الأول فى العربة، لتظهر من ورائه علبة مفاتيح الكهرباء المكشوفة للجميع، تتلامس عدة أسلاك بعضها البعض، فتنير العربة، بعد ظلام دام 45 دقيقة، منذ دخول القطار للمحطة، فيأتى صوت أحدهم «كده رضا.. ده ساعات بتفضل العربية كلها عتمه لحد نهاية الخط».
«كملها بالسلامة يارب».. جملة يرددها عدد من الركاب، بينما عجلات القطار تشق طريقها نحو الظلام، ليأتى الرد سريعا «سلامة مين.. ده إحنا هننشف على ما نوصل».
خفة ظل المصريين ورح الفكاهة لم تكن بعيدة فى هذه الساعات الباردة، بينما بائع الشاى «السريح» يساهم بصوته الجهور فى بث بعض الدفء فى الركاب بجنيهات قليلة «الشاى سخن أشرب وادفى».
«مصطفى» وزوجته و3 أبناء يجلسون القرفصاء على مقعد مزدوج، الزوجة تضم رضيعها، تتلفت حولها تستعين بزوجها على الهواء الداخل بعنف من كل الاتجاهات، يطمئنها الزوج مبتسما بسخرية «اطمنى..إحنا الحمد لله أخدنا الاكسبريس وهيوصل بسرعة».
فى «بلبيس» يصعد عدد من الباعة الجائلين، تصعب حركتهم بين الطرقات التى يصفها أحدهم بالبراح: «ده كده فاضى أووى.. علشان قطر «منوف لسه طالع».
أشعل أحد الركاب سيجارته، وهو يدرك تماما منعها بالمواصلات العامة. لم تفلح محاولات المختنقين بالدخان فى منعه، يرد ببرودة تناسب صقيع يناير: «مش شايف الهوا اللى داخل علينا.. ده ولا غرفة الإنعاش».
حكاوى السمر تنوعت بين ثمن مراجعات الدروس الخصوصية أيام الامتحانات وقلة طلب القاهريين على الجبن الأبيض الفلاحى والسمن، المعد خصيصا لهم، بينما يحتل محمد صلاح وكرة القدم الجانب الأكبر من حكايات القطار الذى استقله يوما لاعب ليفربول الإنجليزى، فى رحلته إلى أسرته بطنطا.
بعد مرور ساعة من الرحلة، نلمح سيدة عجوز ترتدى شالا وجلابية قطيفة، تطوى أسفلها تحت قدميها المتجمدتين، أصدقها وهى تهمس: «البرد هينشفنى»، بينما تتربع حفيدتها أمامها، تشد أكمام البلوفر «الممزق» فتخفى كفيها الصغيرين وراء الأكمام، بينما يجلس الرجال بالقرب يحمون رؤوسهم بأغطية الرأس، أو يغطون آذانهم بكفوفهم عساها تفعل شيئا، فى حين يبحث عجوز، ليس ببعيد، عن قطة «كرتون قوية» يسد بها سيل الهواء القاتل، المتجه نحو ظهره المحنى بفعل الطبيعة أيضا، يرقب العجوز الطفل «زياد»، الذى تلاشت فرحة ركوبة القطار للمرة الأولى، فور إعلان انطلاقه بركابه، بينما يبحث الأب عن أى قطعة «مشمع» يحشو فيها الصغير ويصد عنه مالم يكن يتوقعه ابن الـ3 سنوات.
الجالسون على المقاعد وسط العربة، وهم أفضل حالا بكثير من الواقفين والمكتومين قرب الأبواب الأمامية، كانوا يصيحون بأعلى صوتهم: «والله حرام.. جنابنا ورمت من الهوا.. ولا هو اللى هنوفره من التذكرة هنصرفه على العلاج».
الحديث عن ثمن التذكرة أشعل موجة الغضب داخل القطار الأقرب لسينمات وسط البلد الصيفية.. «هم كمان عاوزين تذكرة.. ده إحنا المفروض ناخد منهم.. طيب هو فين أصلا القطار اللى هندفع علشانه تذكرة.. لما يعاملونا معاملة البنى آدمين نبقى ندفع تذاكر».
جنيه ونصف فقط.. هى أجرة القطار من القاهرة حتى المنصورة، ومع ذلك يرى الركاب أنهم الخاسرون فى تلك الرحلة، لمَ يتعرضون له من أوضاع غير آدمية طوال الرحلة، وهو ما برر غياب كمسرى القطار حتى محطة «أشمون»، لأنه «بيخاف يظهر فى الزحمة، علشان الناس بتتخانق معاه، محدش عاوز يدفع، لأنهم مش حاسين بالخدمة من الأساس» حسب ما شرح لنا أحد الركاب.
يتذكر الراكب مشهدا تشاجر فيه أحد الركاب مع المحصل رافضا دفع ثمن التذكرة، قائلا بصوت عالى «مش لما نلاقى دورة مياه نقضى فيها حاجتنا، نبقى ندفع التذكرة»، ويستمر الراكب فى سرد الحكايات، مشيرا إلى القاذورات والمخلفات الملقاة بين الكراسى وفى الطرقات ما بين قشر لب ومناديل وعبوات بسكويت فارغة: «إحنا طالعين القطر لاقيين كل الزبالة دى.. وأى حد ممكن يعمل أى حاجة.. لأن القطارات اللى زى دى أصلا مش فى الحسبان».
الطريف فى الرحلة أن حديث هيئة السكك الحديدية حول تطبيق زيادة أسعار التذاكر قبل نهاية يناير نظير تطوير القطارات والمحطات، أخذ جانبا كبيرا من النقاشات الحارة فى القطار البارد، انتهت بتعليق أحدهم: «لو كنا فى حساباتهم أصلا ماكانوش سمحوا لقطر زى ده بالخروج من الجراج».