-١-
كثيراً ما أحاول أن أستعيد بعضاً من ذكريات «امبارح البعيد» عندما كنت أقل عمراً وحفيدى أصغر!، حينما كنت أصحبه فى نادى الصيد وألعب معه الاستغماية، حينما كان نداؤه «جدو» له طعم خاص فى أذنى، فقد كانت رتبة «الجد» أجمل مكافأة منحتها لى ابنتى. كنت أستمتع بتكسير الكلمات والنطق الطفولى ولا أدرى سر سعادتى فى «السفر الداخلى» لهذه المحطة فى العمر، هل أستعيد شبابى أم أحن لزمن البراءة أم تروق لى صحبة أول حفيد؟!. أتذكر عبارة لماوتسى تونج يقول «نم مطمئناً ما دامت الطفولة تسكنك»، ولكن ماذا يقصد ماو بالطفولة؟. أظن أنها القدرة على الدهشة!. كان شريف – حفيدى – يتمتع بهدوء وشقاوته محدودة وربما كان يدخرها لمراهقته، أتذكر أنه كان فضولياً ويسألنى ولعله ورث جينات الفضول عنى.
لكن الأيام «رمحت» وكبر شريف وظهر له شارب أخضر اللون، ثم قالت ابنتى حنان إنه حلق ذقنه لأول مرة، وفرحت فرحاً طفولياً لا أدرى كنهه!، وبعد أن كان يعود للبيت فى الثامنة مساءً، صار يسهر للواحدة صباحاً ولا يغفل جفن لأمه قبل أن تسمع صوت المفتاح وهو يفتح باب الشقة، ويدخل وينام فى غرفته. وأتذكر أيامى فى بنى سويف حين كان أبى يغلق الباب بالترباس بعد التاسعة فأنام أمام الشقة عقاباً حتى تفتح أمى الباب!.
تغير الزمن وأصبح شريف حفيدى رجلاً ويشغله مستقبله وقبل ذلك بسنوات كان شريف «تحت السيطرة» وأراه كثيراً وأحاول استدراجه لمغامراته العاطفية فيبتسم ولا ينطق بكلمة، ولأنه «راسى» وقليل الكلام ونادر الإفصاح عن نفسه صار مرغوباً من الجنس الآخر، ورويداً، خرج حفيدى من دائرة السيطرة وانشغل بأصدقاء جدد هم أسرته وأهله وخلانه وانشغل بتليفونه صديقه التوأم، وصارت له حفنة أسرار، ثم اختار أن يكمل دراسته فى الخارج وراسل بنفسه عدة جامعات حتى وافقت جامعة فسافر، ويوم ذهب للمطار كان فى وداعه عشرات الأصدقاء وليس بينهم حليم والده أو حنان والدته. أتذكر أن حنان حين ذهبت وهى طفلة رحلة مدرسية إلى أسوان ذهبت آمال وأنا إلى موقع الأتوبيس لنودعها ونوصى عليها طوب الأرض، اليوم يسافر شريف وفى المطار يتجمع الأصدقاء عائلته الجديدة!. هكذا كل الأحفاد، انفصلوا عن عائلاتهم وارتبطوا بحياة جديدة و«تمويل» مستمر من الآباء!.
-٢-
كثيراً ما كنت ككل «جد» أحاول الاتصال بالحفيد أينما يدرس ويصنع مستقبله ولا يرد!، كثيراً ما فكرت- وأنا فى أوروبا- أن أفاجئه بوجودى ولكن هو لا يحب المفاجآت!، وعبر رسائل صوتية على التليفون أو مكتوبة أو منشورة (!) رجوت حفيدى أن يعطينى فرصة لأراه وأتكلم معه ولكن «أصحابه» أكثر جاذبية من «جدو»!، إلى أن حدثت مفاجأة، حيث كان يستعد للسفر لجامعته وخلصت أيام المصيف وعاد إلى القاهرة إلى بيته، واتفقنا سوياً أن يكون موعدنا فى بيته وأظنه «تنازل» و«سمح» بالزيارة الميمونة وذهبت قبل الموعد أنتظره عائداً من الإسكندرية وما إن رأيته حتى احتضنته بشوق السنين وجلسنا معاً، ها هو «جدو» و«الحفيد»، ثنائية خالدة!، فكل حفيد «غالى» عند «جدو»، تذكرت لغة جيلى، كنا نقول «سيدى» و«ستى» ولم نعرف كلمة «ستو» إلا فى القاهرة ولم أسمع لقب جدو إلا من شريف، قلت له: حلوة قصة شعرك! رد فى اقتضاب: تغيير! قلت له: محدش من أصحابك غاوى أدب وأمله يبقى أديب؟ قال فى اقتضاب: يبقى قديم!. قلت له: فكرت تتجوز؟ رد بكلمة: بدرى! قلت: أفكار الشباب إيه؟ رد بكلمة: تجارة ثم استطرد: العالم كله تجارة!. قلت: المصيف مسلى مع أصحابك، رد بسرعة: جداً! قلت: ما أجمل ما فى المصيف؟ قال: الحرية يا جدو!. قلت: امتى بتروح البيت؟ قال: أكون عاوز غيارات وهدوم! قلت: البيت لوكاندة؟ قال: ممكن! قلت: سعادتى باعتمادك على نفسك؟ رد: بس باعتمد جداً على ماما فى مصر، قلت: ما أصعب ما يواجهك بره؟ قال وقد علت جبينه تكشيرة: لما تبقى المواعين فوق بعضها!. قلت: كيف تصحو فى النهار؟ قال: المنبه هنا «وأشار إلى رأسه».
قلت: كيف تتابع أخبار البلد؟ قال من التليفزيون آخر اليوم. سألته: معك شباب من مصر؟ رد: قليل. سألته: إيه ضريبة الغربة؟ قال: يعنى إيه يا جدو؟! قلت: أقصد مم تعانى فى الغربة؟ قال: تقصد إيه يا جدو؟ أقصد Do You Suffer، قال: Yes قلت له: أمثلة؟ قال: لما تعتمد على نفسك فى كل شىء، لكن لو شكيت من حاجة أتصل بماما على طول وتنصح بالدوا، وتتابعنى كل يوم لغاية لما تروح الكحة أو المغص!. قلت له: كانت مهمة الاغتراب؟ قال: يعنى إيه الاغتراب ده؟ قلت: يعنى تعيش بعيد عن مصر. قال: أيوه مهمة، ثم استطرد: كفاية الشتا، صقيع، قلت: بتعمل شوبنج؟ قال: مفيش وقت والشوبنج فى أمستردام، أحياناً أنا أكتشف حاجات وماما تحب المشى، قلت: بتروح المغسلة بهدومك؟ قال: أحوشهم لغاية ما تيجى ماما وبابا!.
-٣-
اكتشفت أن حفيدى شريف كان أغلق تليفونه طوال جلستنا النادرة ولما فتح التليفون وجد17 Missed Call و9 رسائل واتس آب و3 رسائل صوتية.. لكنى اكتشفت فى حفيدى رجولة مبكرة وجدعنة، فكل أصدقائه يلجأون إليه فى مشاكلهم وهم يتواعدون على اللقاء فى الإجازات الطويلة، ويذهبون أسراباً للمطارات لوداع بعضهم بعضاً!. قلت لشريف: كل «جدو أو ستو» أقابلهم لا شكوى لهم إلا ندرة اللقاء بالأحفاد صمت حفيدى قليلاً ثم أجاب بما لم أتوقعه.
– أصل قلبهم خفيف يا جدو!!.
قلت لحفيدى: لماذا أصحابك لا يقولون للكبير حضرتك؟
قال ضاحكاً: Easy يا جدو.
قلت له: لماذا لا تسمع نصيحة الكبار؟
رد: Easy يا جدو.