هذا المقالُ ليس كما قد يشى عُنوانُه. هذا المقالُ لا يعقدُ مقارناتٍ بين أشخاصٍ، أو حناجرَ، أو مواهبَ، أو مستوياتٍ ثقافية، أو سلوكٍ، أو تجاربَ، أو مدارسَ فنيّةٍ أو فكريةٍ. هذا مقالٌ يحكى فضفضاتٍ حدّثتُ بها نفسى، وأودُّ أن أحدّثكم بها حديثَ النفس للنفس. هذا مقالٌ يُحرِّضُ على التأمل، ولا يُراهنُ على أي شىء.
أم كلثوم. ولو سألنى سائلٌ: كيف وضعتُ «نقطةَ نهاية الجملة» بعد «مبتدأ» لا «خبر» له؟ سأجيبه بأن اسم: «أم كلثوم» مبتدأٌ وخبرٌ معًا. اسمها في ذاته «جملةٌ مفيدة» يجوز ألا نضيفَ إلى مُبتداه خبرًا لكى يكتملَ المعنى. لأن مجرد ذِكر اسمها سوف يستدعى في ذهن المتلقى تاريخًا استثنائيًّا ثريًّا، لا تستوعبه مجلداتٌ ضخمةٌ حافلة بالجُمل المفيدة. ومع هذا، إن بحثتَ عن حوارات تليفزيونية أو صحفية مع أم كلثوم، لن تجد، ربما إلا حوارًا واحدًا وافقت السيدةُ الجميلةُ أن تُجريه مع سيدة جميلة أخرى هي الإعلامية «سلوى حجازى». أين؟ في باريس. متى؟ في نهاية عام الهزيمة ١٩٦٧. لماذا؟ لأنها كانت تجوبُ العالمَ لرفع رأس وطنها الجميل مصر، ودعم المجهود الحربى ليواجه العدو الصهيونى، فتبرّعت بكامل إيراد الحفل الذي أقامته في مسرح «أوليمبيا» الفرنسى (١٤ ألف جنيه استرلينى، وهو ثروة طائلة آنذاك) لصالح جيش بلدها. وماذا قالت في ذلك الحوار الطويل؟ كلمات قليلة للغاية، لا نتذكر منها إلا كلمة: «المسلّة المصرية»، ردًّا على سؤال: «ما أجمل ما رأيتِ في باريس؟».
ورغم ثقافتها الواسعة وتمكّنها من الحديث بلغة عربية رصينة لا لحنَ فيها ولا عِوَج، كانت «أم كلثوم» بخيلةً للغاية في الجود بكلماتها في اللقاءات. لماذا؟ لأنها أدركت أن حنجرتها الأسطورية تلك لم تُخلَق للدردشة والكلام السيّار الذي يقوله الناس، إنما للغناء، وفقط. كانت تضنُّ باهتزازات أحبال حنجرتها إلا على الشدو والطرب وضبط المقامات، والدندنة مع الموسيقى، لكى تُدوزِنَ أوتارَ حنجرتها على إيقاع النغم.
فيروز. وهل يقفُ اسمُ «فيروزَ» كجملة مفيدة كذلك، دون خبر للمبتدأ؟ نعم، بكل تأكيد. فرادتُها واستثنائيتُها وتاريخها ومُنجزها جميعها «خبرٌ» للمبتدأ: «فيروز». كلما سافرتُ إلى بيروت، أحرص على زيارة كنيسة «أنطالياس»، المكانُ الذي تُغنّى فيه الجميلةُ في عيد الميلاد. لماذا؟ حتى أستنشقَ عبيرَ صوتها في مكان الشدو. مفتونةٌ أنا بتلك العصفورة الغِرّيدة. وفى أحد الأعوام، سافرتُ للمشاركة في أحد المؤتمرات الفكرية في جامعة «سيدة اللويزة» في جبل لبنان. وحين لمسَ منظمو المؤتمر شغفى بالجميلة فيروز، قرّروا أن يُنظّموا لى لقاءً خاصًّا معها. لكننى ضحيتُ بذلك المجد التاريخىّ، لأننى آثرتُ ألا أُنصتَ إلى فيروز إلا شاديةً مُغرّدة. فيروز كذلك لم تُخلق إلا للشدو والغناء.
عزيزتى شيرين عبدالوهاب، أعلمُ أنك على قدرٍ هائل من البساطة والتلقائية. ولاشك عندى، ولا عند أحد، في حجم وطنيتك وحبّك لمصرَ، التي يحبها جميع المتحضرين في العالم أجمع، إلا فقراءُ الروح من ذوى الأحقاد والضحالة. وأعلم أن كلماتك التي حاولتِ فيها المزاحَ مع جمهورك لم تتخطَّ حاجزَ المزاح والمرح، حتى وإن جرحتنا. وأعلمُ أن الإعلاميين الأُجراء المغلولين الهاربين من مصر في تركيا وقطر، قد حمّلوا كلماتك سمومَهم حتى يفوزوا بنقطة حرام في معركتهم الخاسرة ضد مصر. وأعلمُ أن التجاربَ الكثيرة المُرَّة علّمتك أن «الحرفَ يقتُل»، إن لم يُزَن بميزان الذهب. وأعلمُ أنكِ حاولتِ في بيانك الباكى تبرئة مصرَ قبل تبرئة نفسك، وهذا يُحسَبُ لكِ، ويؤكدُ وطنيتك. وأعلمُ أنك تعهدتِ مرارًا من قبل، ومن بعد، أن تُقصرى صوتَك على الغناء وفقط. وأعلمُ أنك ربما لن تقدرى على الوفاء بالعهد، لأن التلقائية كثيرًا ما تغلبُ العهود. لهذا أكتبُ لك هذا المقال. اعلمى يا صديقتى أنه كما يقول المثلُ الدارج: «وقعة الشاطر بألف»، كذلك فإنه بالقياس: «كلمة المشهور بألف ألف!»، أو كما تقول الأدبياتُ العربية: «قليلُ كلامِنا كثيرٌ». الشهرةُ ليست نعيمًا مطلقًا كما يظنُّ الناس. لأنها تُحدُّ من مساحة الحرية، وتُخفّضُ من سقف الممكنات، وتُغِلُّ الأعناقَ بسلاسل من الالتزام الصعب. ما يقوله الناسُ في جلساتهم وعلى صفحاتهم من مزاحات ونكات وقفشات، لا نستطيعُ نحن أن نقوله مادمنا قد دخلنا دائرةَ الأضواء والشهرة. يُحسَبُ علينا ما يمرُّ على غيرنا. ولكِ حبّى.
وكالعادة أختمُ مقالى بقولتى: «الدينُ لله، والوطنُ لَمن يُحبُّ الوطن».