فضيحة في دار الأوبرا
بكر شعراوى، فنان تشكيلى مصرى، يعيش فى أستراليا، فى الخمسينات من عمره، بجانب عمله مهندسا فى أهم المحميات الأسترالية، حقق نجاحات فى الفن التشكيلى، وأقام معارض هناك وشهد له النقاد بالموهبة والبراعة، دفعه الحنين للوطن إلى إقامة معرض للوحاته فى دار الأوبرا المصرية، وجاء خصيصًا إلى القاهرة من أجل هذا الهدف، لكنه اصطدم بأسوأ صور البيروقراطية بشاعة.
اعتقد الفنان المصرى أن تقاليد وقيم دار الأوبرا المصرية لن تقل عن مثيلاتها فى العالم، كان ذلك ظنه إلى أن ذهب قبل أيام فى العاشرة صباحا ليسأل عن الموعد المناسب لإقامة معرضه والأوراق والتكاليف المطلوبة، لكنه لم يجد الموظفة المسئولة، وظل أكثر من ساعتين فى انتظارها، ولما جاءت فى الثانية عشرة والنصف لم تعتذر عن التأخير، بل وجد الرسام المصرى القادم من أستراليا منظرًا سرياليًا لن ينساه.
أخرجت الموظفة ساندويتش طعمية لزوم الإفطار، وأمسكته بيد وفى اليد الأخرى أمسكت مصحفًا وراحت تقرأ آياته فى سرها، وفوق ذلك راحت تجيب فى اقتضاب عن أسئلة صاحبنا، الذى لم يصدق أنه بداخل دار أوبرا عريقة، وفهم من إجاباتها المقتضبة الحادة، وهى تمضغ طعامها، وتتمتم بالآيات، أنه من سابع المستحيلات أن يجد فرصة لإقامة معرضه فى هذا التوقيت، فـ«السيزون مقفول»، على حد قولها، وحاول أن يستفسر عن «السيزون» القادم، لكنه لم يحصل على إجابة شافية ولا معلومة وافية، وغادر صاحبنا المكتب ووقف أمام مدخل دار الأوبرا، ليتأكد أنه لم يخطئ العنوان.
وكان أول قرار اتخذه هو أن يقطع إجازته ويعود إلى أستراليا ليقيم معرضه هناك، ففى دار الأوبرا بسيدنى يعتبرون العمل عبادة ولا يأكلون الطعمية. وحاول أصدقاء الرسام المصرى إثناءه عن قراره، ومنهم من اتصل بالمركز الثقافى الروسى ليكون مكانًا لمعرضه لكنه أصر على السفر، فلم يستطع أن يستوعب أو يصدق منظر موظفة الأوبرا وهى تأكل وتقرأ القرآن وتمارس عملها فى وقت واحد.
هذه الواقعة نهديها إلى الدكتورة إيناس عبدالدايم، رئيس دار الأوبرا المصرية، التى امتلكت صلابة فولاذية فى وقت حكم جماعة الإخوان ودافعت بشراسة عن الفنون فى مواجهة هجمة التيارات المتأسلمة، التى لا ترى فى رقص البالية، سوى أنه عرى، والموسيقى عندهم هى رموز الشيطان، وخاضت معركة لتحفظ كيان دار الأوبرا المصرية من المتربصين والكارهين للفن.
لكن هذا لا يمنعنا أن نتساءل: كيف سكتت الفنانة إيناس عبدالدايم عازفة الفلوت الأسطورية عن هذا الاختراق «السلفى» لدار الأوبرا المصرية بعد معركتها الطاحنة مع جماعات الظلام؟.. ليس سرًا أن بين موظفيها وموظفاتها من يحمل أفكارا سلفية متطرفة تتصادم كلية مع الدور الرئيسى الذى من أجله أنشئت دار الأوبرا ومن أجله تتحمل ميزانية الدولة كل هذه الملايين.
ولا تستغرب عندما تجد بين موظفات الأوبرا من ترتدى النقاب، وبين موظفيها من يطلق لحيته، ويجلس بين جدرانها ليقرأ كتب ابن تيمية والحوينى وحسان وشيوخ السلفية، ويجد فى موسيقى عمر خيرت لهوا ولغوا سيحترق سامعيه ومستمتعيه فى نار جهنم.
قطع الرسام المصرى المهاجر إلى أستراليا زيارته للقاهرة وعاد مذهولا من هول ما رأى فى دار الأوبرا المصرية.. وهى حادثة تفتح الباب لمناقشة الملفات المسكوت عنها فى دار الأوبرا، التى تحتفل قريبًا بعيد ميلادها الثلاثين.