مفيد فوزي …. يكتب يا د. مصطفى الفقى: حزن الوزير له أسباب!
لماذا اخترتك «فناراً» أهتدى به وسط بحر من الضوضاء والصخب يكاد يحجب عنا الحقيقة؟.. لاعتبارات ثلاثة. الأول: أنك بين المثقفين الكبار «الأبرز» والأكثر تأثيراً. الثانى: أنك تنقلت بين السياسة والدبلوماسية والصحافة وروضة الأدب فى توليفة شديدة المتانة وربما لم تتح لغيرك.
الثالث: أنك تبوأت منصباً دولياً كمدير لمكتبة الإسكندرية ولا يزال قلمك مشتبكاً مع هموم وطن يتربص به إرهاب فى الداخل والخارج، وصار لقلمك خاصية الولوج فى قضايا داخلية وخارجية، يؤهلك لها نظرتك الشمولية.
لهذه الاعتبارات رجوتك حكماً فيما أُدلِى به من شهادة. لقد قرأت أن وزير التعليم د. طارق شوقى حزين لما آلت إليه أحوال لغتنا العربية فى بلد «مجمع اللغة العربية»!. لقد كان بإمكانى أن أمر على الخبر مرور الكرام ولا أبالى، فلست مهندس إنسانية أملك عصا موسى!، لكنى أحمل فوق ظهرى أكثر من نصف قرن فى مهنة الكلمة مسموعة ومرئية ومكتوبة. أعطيت الصحافة المكتوبة والمتلفزة عمرى ولا أزال معنياً بجدية لم ينفرط عقدها.
أنا من جيل كان فيه السيد عبدالله مدرس اللغة العربية فى المدرسة الثانوية يكلفنا بأن نقدم له مطلع كل حصة «أجمل ما قرأنا» ونتلوه بأنفسنا وبأصواتنا. تربينا على أن نقطف أجمل ورود اللغة شعراً أو نثراً، حتى أصبح لكل طالب بستان من حلو الكلام نزهو به، فتربى لدينا الحس الحقيقى للغة، ثم تربى الحدس الموسيقى فيما أقول أو أكتب على يد الدكتور عبدالحميد يونس فى كلية الآداب قسم إنجليزى، وكان د. يونس يطلب منا أن ندخل عالم شاعر قديم ونبرز جمالياته، وكنت قد اخترت المتنبى.. ربما لأنى سمعت نزار قبانى يقول فى حديث إذاعى ليس للشعر إمارة أما المتنبى فهو إمارة مستقلة!.
أردت أن أقول كيف تربيت وجيلى على حب اللغة واحترامها. فهل – يا د. مصطفى الفقى – يسمح المناخ وكثافة الفصول وموقع أستاذ اللغة بأى حس جمالى فى لغتنا العربية؟.
أنا من جيل كان يسمع من إذاعة مصر «أحاديث السهرة»: طه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود وبنت الشاطئ. كانت تذاع فى التاسعة مساء كل يوم، فشربت الأذن المصرية أبجديات اللغة وجرسها وصارت نهراً من الكلمات ينهل منه كل محب غيور على اللغة، فهل زماننا المشوّش التفت حتى إلى إعادة هذه الأحاديث أو اختار من الملايين من يملكون رصانة اللغة، فيشيعون مناخاً بحب اللغة ووقعها على الأذن؟.
فى جيلى – يا د. مصطفى الفقى – كان هناك أحد أهم حراس اللغة الشاعر فاروق شوشة وكان يقدم كل ليلة «لغتنا الجميلة» بمقدمة صوتية لصفية المهندس. كان فاروق يستعرض جماليات اللغة فى قصيدة أو مقال وكان يقدم سهرة ثقافية مع أديب أو مفكر يستعرض معه قطوف الأدب ومازلت أذكر بالمناسبة جلسة طه حسين مع الأدباء والكُتاب فى بيته «فيلا رامتان»، وهو العميد الذى صنع من العمى بصراً وبصيرة. فى جيلى – يا د. مصطفى الفقى – كانت أم كلثوم تغنى القصائد فتروج للفصحى. كانت تشدو بقصيدة فيرددها الشارع فى اليوم التالى.
انظر اليوم، نوعية الغناء السقيم الذى يحمله الشباب فى موبايلاتهم. انظر اليوم، عناوين بعض برامج التليفزيون وكم خاصمت الذوق اللغوى ومازالت جارية!. انظر أجمل الألحان عندما يتم تركيبها على إعلانات دون رقابة!، هل اهتمت إذاعة باللغة وأدائها؟ لا، فهذا تفكير عفا عليه الزمن فى نظر البعض.
ذات مرة كنت أشيد بفاروق شوشة حارس اللغة، فقال لى شاب جامعى يدرس فى كلية اللغة العربية: ياه حضرتك قديم أوى؟!، وحمدت الله أنه «وقرنى» حين استخدم كلمة حضرتك، فهذه مصطلحات صارت ضد الموضة!. انظر إلى أسلوبنا على الموبايل ورسائلنا لما نشيِّر وندلِّت! انظر – يا دكتور مصطفى الفقى – إلى مجمع اللغة العربية ولعلك تتساءل معى، أين هو: ليس له دور ولكنه لا يموت فمازال يعمل فى صمت وأخباره ندرة!. لقد كان زكى المهندس، عميد المجمع اللغوى، يقول: لغتنا هى عِرضنا، والحفاظ عليها هو حفاظ على هويتنا، هل مازال أحد يتبنى هذا المفهوم؟، من يعرف أن مجمع اللغة العربية تأسس فى ديسمبر ١٩٣٢ برئاسة أحمد لطفى السيد وإدارة محمد توفيق رفعت. من يتذكر أن المادة الثانية من المرسوم الملكى بإنشاء مجمع اللغة العربية، هى أن يحافظ على سلامة اللغة العربية وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون فى تقدمها ملائمة لحاجات الحياة فى العصر الحاضر وأن يقوم بوضع معجم تاريخى للغة العربية وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة. فهل تهتم صحيفة أو برنامج تليفزيونى بنشاط فرسان يعملون بصمت ولكن أحداً لا يعرف نوعية الجهد.
صحح لى يا دكتور مصطفى إن أخطأت أو تجاوزت لهذه الأسباب وغيرها تبخر احترام لغتنا الجميلة. إن حزن وزير التربية والتعليم فى محله، وهو يحمل مسؤولية تاريخية أنه جاء إلى هذا المنصب وشعر بازدراء اللغة، بل والسخرية منها فى مسرحيات شهيرة، من حقه أن يحزن، فمن غيره يحزن؟! لقد أغضبنى حزن الوزير، لكنه يفطن إلى أسباب ساهمت فى هذا الوضع الردىء للغة!.
هل يدرك طارق شوقى هذا «الواقع» ويعبره؟ نعم.
لماذا – يا د. مصطفى الفقى – اختزلنا المجمع اللغوى فى «شاطر ومشطور وبينهما طازج»، فصار المجمع جاذباً لأقلام الكاريكاتير؟!. هذه مهمة مجتمع أهمها الإعلام لتصحيح الصورة. الأمر يحتاج لحظة. فمثلما نضع خطة بناء فى العاصمة الإدارية، لابد من خطة لنرمم لغتنا الجميلة صلب وجداننا، مهما قال الجهلاء إنها رِدّة والتكنولوجيا اتكلمت!، كيف؟ أنا أجتهد يا د. مصطفى الفقى وأنت تملك مقومات أكثر منّى ترى الصورة أعمق وأوضح. لست فى حاجة أن أذكرك أننا هجرنا الكتاب وسقطنا أسرى للموبايل وشبكات التواصل الاجتماعى.
فهل الوقوف مع اللغة العربية رِدَّة؟
هل الدعوة للكتاب والقراءة رِدَّة؟
هل إحياء دور المجمع اللغوى رِدَّة؟
هل زرع برامج تروّج للفصحى رِدَّة؟
هل استعادة قول طه حسين «لست أخاف على الفصحى إلا من عامية بيرم التونسى رِدَّة؟
هل زرع حوارات فى التليفزيون يصنع مناخاً مهتماً بالغة.. رِدَّة؟
هل إعادة النظر فى منهج اللغة العربية وطرق تدريسها.. رِدَّة؟
هل إعادة الضبط والربط فى المجتمع واستخدامه للغة.. رِدَّة؟
هل الاهتمام بخطوط أولادنا الركيكة بعدما أصبح النشء يكتبون على الكمبيوتر.. رِدَّة؟
يا دكتور مصطفى الفقى.. صحح لى إذا أخطأت أو تجاوزت أو حتى بالغت؟
هنا نتفق على خطة محكمة ترفع شأن حال اللغة العربية المتردية. إنه عمل وطنى فيما أظن.
■ . مصطفى الفقى
هذه هى القضية، أضعها بين يديك أمانة أمام الأجيال. أخاطبك، لا بوصفك مسؤولاً إدارياً رفيع المستوى، إنما بوصفك مصريا بالتاريخ والجغرافيا، وكانت رسالة الدكتوراه فى مشوارك الأكاديمى قضايا الأقباط فى مصر. أخاطب مصريتك وعروبتك. أخاطب المثقف المنتمى للعصر. أخاطب الغيور على لغة الضاد، أن ترأس أى لجنة بالاتفاق مع وزير التعليم الحزين على تردى اللغة.
لتكن مكتبة الإسكندرية مسرحاً للنقاش والرؤى، فهى الأجدر بقداسة القضية. سامحنى إن أضفت إليك أعباء، واعتبر ما كتبت حالة «عصف ذهنى»، على حد تعبيرك عنى!.
ولماذا تحزن يا معالى الوزير وأنت القائل «نحن ننفق على الخرسانة أكثر ما ننفق على العقول».
